919890
919890
شرفات

«الشيطان يستيقظُ صباحًا»

06 فبراير 2017
06 فبراير 2017

أسماء الشامسية -

بقدر ما هو مستيقظ فهو نائم، ليس أدل على ذلك من جوارحه المنطفئة، وشيطانه المتأجج، يريد أن يقضي صباحه مستغرقًا في النوم ولسوء حظه فإنّ شيطانه يربكه، فعند الساعة السابعة وعشر دقائق من كل صباح يبدأ شيطانه في الثرثرة: يا زعيم الكسالى استيقظ، إن لدي عملاً علي أن أنجزه، مالاً ينبغي أن أجنيه، خدمةً علي أن أؤديها لرب عملي، استيقظ برب هذا الكون!

لكن صاحبنَا يتململ مراوغًا، فإذا ما قلبه شيطانه على جانبه الأيمن، دفع صاحبنا بجثته إلى الجانب الأيسر، وحرك شفتيه بغمغمة زاعمًا أنه مستيقظ أو يوشك أن يفعل، وأنه ما من عجلة تدعو لكل هذا الضجة. وفي الحالات التي لا يتوقف شيطانه من أذيّته فإنه يختار أن ينطرحَ على بطنه، وهكذا يصبح لشيطانه جانبًا آخر مكشوفًا لتعذيبه، وإذا ما حاول شيطانه إيقاظه بكوب ماءٍ يسكبه على قذاله، يوجه صاحبنا لكمةً إليه، إذ تبدو محاولة الإيقاظ بالماء أكثر الحركات استفزازا لديه، وفي الحالات النادرة جدا، يحاول شيطانه انتزاع قميص نومه ممسكًا إياه من ظهره المستريح بوداعة، فيبدو صاحبنا بيدين ذابلتين على جانبيه وظهرًا مشدودًا إلى الأعلى، وكرشه تتدلى من الأمام مثل ثمرة ذابلة، ولا يجد صاحبنا غضاضة من هذه الحركة فهو يجدها تدخلاً جميلاً في نومه، وما إن يفلت شيطانه يديه عنه ترتطم الكرشَة بالسرير، محدثةً أثرًا نفسيا بالغ السوء لصاحبنا، خصوصًا وأن أمعاءه تختض أشدّ اختضاض قبل أن تسكن وترتخي،مع ذلك يتخذ صاحبنا هيئة أخرى على هيئة القرفصاء تُرعب شيطانه،فهي دلالة على استغراق تاريخي في النوم وليس محض استغراق، والحق يقال تنتاب شيطانه مشاعرَ شفقة ما إن يراه متخذًا هذه الهيئة.

وفيما عدا ذلك لم يجد شيطانه من طريقة لإيقاظه عدَا أن يقذف به من السرير، راميًا إيّاه بأقذع أنواع السباب ثم يختمها بكلمة: بربك!

وبعينين غائرتين في النوم وفيما هو خاملٌ تمامًا يجد من القوّة ما يجعله يعترضُ بين حين وآخر، حالمَا ينتبهُ أنه على شفا سقوط مدويّ من السرير: أتقول بربك؟ هل أبقيت فيها من ربّ يا أول العصاة!

وبمضيّ الوقت طوّر صاحبنَا طرقًا جديدة تجنّبه السقطة المدوية تلك، ففي إحدى الليالي، فاجأ شيطانه بسرير منزوع القوائم، يشبه الحصير في قلة سماكته، دعوني أقول أن السرير المبتكر هذا يشبه النوم على فَرشةِ الأرضية تمامًا، ما يعني أن صاحبنَا لن يجد نفسه يتدحرج من على سفح جبل في كوابيسه،فهو على الأرجح سيشبع تدحرجًا في مكانه، وإن يكن، فلشيطانه ذكاءاته المتعددة أيضًا، وهو الآخر قرر طريقة يحتال فيها على من يتماكر عليه.

«ما لم تستيقظ أيها الحمار فسنخسر الصفقة الرابحة» قال:

لكن صاحبنا مع إحساسه الضئيل بهذه الإملاءات اليومية التي تخترق أسماعه النائمة، يصحو له نصف دماغه وبالضرورة نصف رأسه، فترمش عينٌ بنصف إغماضة، وتنتفض أصابعه واحدًا تلو الآخر ثم تزحف ذراعه اليمنى باتجاه الساعة،يديرها باتجاهه، يراقب كم مضى من الوقت، الساعة السابعة وخمسة عشر دقيقة: ما يزال ثمة وقت.

يُرجع الساعة مثلما كانت، يمضغ شفتيه مطمئنًا: إيه نعم.. ما يزال ثمة وقت.

لكن شيطانه يعلم تمامًا أنه لن يستيقظ قبل الموعد المحدد لبصمة الحضور، فصاحبنا يعمل في شركة متشددة وتخصم لكل خمس دقائق تأخير نصف ريال، ونصف ريال مع نصف ريال أخرى تكدست خلال الشهر الواحد قد تجمع مبلغًا مجزيا، فما إن يتذكر شيطانه أن الريالات تفر بجناحيها وتفلت من جيبه كل شهر، يبدأ صياحه متشنجًا : آآخ يا أيها البرذول ! شيطان غيري يأخذك !

ثم يسير ويجي في أنحاء الغرفة يعد بأصابعه البيسة والأخرى: آخٍ بس آخ! لو أنك استيقظت لكانت خمسة ريالات لبنزين سيارتك يوصلنك إلى العمل ومشاويرك البعيدة، والخمسة الأخرى كالآتي.. ريالان لإفطار الصباح، وريال لاشتراك الشركة الحَلُوب، وريالان آخران لرفاهيتك الشخصية .. وحلائبَ الرّادا... الخ.

ولايفوته أن يرد ما إن يستيقظ عند الساعة السابعة وثلاثين دقيقة، وهو وقت استيقاظ متأخر تكون فيه الريالات غادرنه بغير رجعة: ليقتطعوا ما يقتطعوا، المغضوب عليهم، لا أريد شيئًا من فلوسهم. لكن ليس قبل أن يقاطعه الآخر: إياك وأن تقول فلوسهم.. بل هي فلوسك.. وفلوسك فلوسي يا دَمير. وما إن يتشنج صاحبنا لا يجد بُدا من أن يقول: العفاريت عفاريت والشيطان هو الشيطان يا للملاعنة!

وبرأس يستريح على مخدة وثيرة، يتحرك بالدراما نفسها ليدير ظهر الساعة، فيفتح عينيه على عقارب تتحرك عند السابعة وخمس وأربعين دقيقة، ثم يُقرر لسبب غير معلوم أن يستيقظ محمولاً على نصف ضميرٍ يؤنبه ونصف آخر بليد غير مبال، مع إحساس شديد بالغبن من أن وصوله إلى العمل سيكون مدّعاة للسخرية والتهريج، فهو سيتمخطر وسط مكاتب زملائه كالأمير الذي يُنتظر لبدء الافتتاح، ليصل إلى مكتبه بعد مرور نصف ساعة من بدء العمل، مكان العمل الذي يبعد عن مكان سكنه خمس دقائق بالتمام والكمال!

ومن سخرية الأقدار أن يجر صاحبنا جثته جرا من على السرير، كما لو أنهم يهيئونه للذبح، وترى قدمه تُسحَب كما يُسحب أحدهم إلى خازوق، وأول ما يفعله أن يضع مقعدته على المرحاض وما إن يشرع في الفعلة حتى يغرق في نومٍ مفاجئ، فهذا الاسترخاء اليومي كفيل أن يكلّف شيطانه مزيدًا من الجهد لإيقاظه من جديد، ولو أن ثمة طريقه تمنعه من دخول الحمام والقيام بحاجته الأولية هذه لمنعه، والحال هذه لا يصبح ثمة مفر من أن ينصبَ شيطانه حبائله جاعلاً الماء الساخن يرشح من الدُّش بجنون، حتى تختمر غرفة الحمام بما يشبه ألفحة جهنم،فما يحس صاحبنا إلا بأبخرة حارة تذيب جلده، فيقفز على حين غرة من مكانه، صائحًا مولولاً متوعدا، وهو لم يكمل إحدى حالتيه الأولى أو الثانية.

وها هو يجد نفسه وسط الغرفة، محشورًا في هذه المعاناة اليومية، لا يلوي على شيء، يصبح محاصرًا وسط أفكاره، يلتفت إلى شيطانه ويكون قد حزم أمره ووضع كلماته في جملة متسقة وموجزة لكنها مؤثرة: اسمع يا هذا، أنا أستقيل!

وعلى إثر ذلك يجد شيطانه الموقف ماثلاً كهدف جاهز للتصويب، مع ذلك يتماسك ولا ينبس ببنت شفة، معتبرًا مثل هذه المواقف المتطرفة تنفيسًا عن حالات الإجبار على حُب ما لا يُحب، وحالما يدرك أنه أوقع بنفسه في موقفه الذي أعلنه للتو، وهو موقف يتعاكس مع قسوة الحياة التي تنتظره في الخارج، يتساءل هل أذهب إلي ارتداء ثيابي؟ لحظتئذٍ يكون شيطانه مترصدًا مترقبًا، آملاً أن يبدأ خطوته الأولى في أن يصنع قهوته الصباحية، مطبطبًا خاطره بشيء من العزاء: الحياة هي الحياة سعيدة وأليمة يوم يدوسك ويوم تدوسه،وفي الغالب تدوسك الأيام تباعًا،مع ذلك عليك أن تستيقظ كل يوم، فإما أن تغرق في هذه الغرفة أو تغرق هنالك. مشيرًا إلى مكان «الهُنالك» حيث لا نعلم إلى أين.ولا يظهر أن صاحبنا اتفق له رأي مع شيطانه يومًا ما فهو دائم التعارك معه على إثر آرائه حالما يرد: يا شيطان يا ملعون الشيطان هو الشيطان، أنت هو أنت متى تتغير؟

عندما تتغير أنت.. يقولها بحاجبين مرفوعين عن ثقة.

وبينما هو وسط الغرفة لايعرف أيهما يختار خزانة الثياب أم السرير، يرى ما يشبه النبوءة، يخيل له السرير وقد ارتفع عن الأرض بسنتيميرات قليلة، واستبدلت الأغطية بأغطية نظيفة ببياض فاقع مُعشي، والحصير بسرير ممتلىء تكاد حشوة المرتبة تخرج عنها، وكما لو أن هواءً باردًا يُرسلُ من مكان ما ينسَابُ على ظهرالأغطية فتهتز بدلال، عندئذٍ يجد صاحبنا نفسه مشدودًا إلى هذا الإغراء بدافع غريزي، يخطو نحوه بتؤدة خطواته التي يبدوأن نشوةً ما رفعتها عن الأرضية، ويظهر أن جناحين نبتَا لصاحبنا في لحظة الحقيقة هذه، رفعتاه برفق عن مستوى البلاط، وها هما تهبطان به برفق مدروس كما يهبط الطيرعلى بيضه بحنان أموميّ، وما إن يجد نفسه في السرير، يغط في نوم عميق.

ومن مكانٍ غير معلوم، تُسمع أصواتُ طرق وولولة وارتعاب من الشيطان الذي انتشر في الهواء، وتلبّس كل شيء وكل ذرة في حالة استنفار: مم مم مماذا تقول لمديرك؟ زبااائنك الذين ينتظرونك طوابير، زبائنك يا هذا؟ يا وجه النّحس، يا طالع الشؤم، إنك لست مريضًا حتى! والب..البصمة..والفلووو..ووس..ومهنيتك..وأنا !

وبوجهٍ محشور في الوسادة ولعاب يسيل من حدّ شفتيه بحركة فم غير مكترثة: سجّل عندك.. إجازة..