شرفات

«حمرة الغياب».. سردية المكان والإنسان

06 فبراير 2017
06 فبراير 2017

فاطمة الشيدي -

تمثل رواية «حمرة الغياب» للكاتب سالم ربيع الغيلاني، سردا عمانيا مغايرا، وربما تأسيسيا لنضج التجربة الروائية العمانية بعد الكثير من التجارب المحاوِلة لصناعة الرؤية السردية العميقة والجادة حول المكان والإنسان والذاكرة، حيث تفترع هذه الرواية ذاكرة سردية عميقة للمكان والإنسان باتجاهين زمنيين؛ زمن متخيل وآخر واقعي ومكان واحد وهو مدينة صور. وتتقدم الرواية في زمنيها (القديم والآني) بشكل متواز سرديا، بحيث يمضي القارئ في حكايتين متوازيتين تماما؛ ليكتشف في نهاية الرواية أن الزمن الثاني (الحاضر) ما هو إلا امتداد زمني للأول الماضي، عبر حكاية تحاول رصد حضور المكان (صور) وتشكّله في الزمن.

ففي الحكاية الأولى يخبرنا «خميس الراوي» -بصفته الراوي العليم- حكاية الجد الأكبر «الغالي» عبر اقتناصات سردية قصيرة كتبت بلغة تقريرية تقريبا، تسبق كل فصل من فصول الرواية، حيث يحكي لنا كيف وصل الغالي الذي كان قادما من العراق ليذهب للهند للاستقرار هناك بعد زمن طويل من الترحال والسفر، ولكن الريح تشتدّ به وتحطّم مركبه، وتشتت بحارته وترمي به في أرض فضاء تحيط بها الجبال والبحر من كل جانب، ولكنه بعد أن استعاد وعيه شعر بالسكينة تجتاح روحه وقرر أن يتخذ من تلك البقعة وطنا، تلك البقعة التي عرف لاحقا أن الجن يسكنون فيها، وهناك خرجت له جنية جميلة «قالت له لا يمكن أن يسكن هذا الخلاء بشري ما لم يكن له نسب مع سكانه من الجن. انتفض ولوّح بعمته في السماء. نظرت إليه وتبسمت، فسرت بين ضلوعه رجفة، وشعر بخدر لذيذ يجتاح جسده.

قالت له: لا تلوّح بعصاك، فأنت ونحن موعودون بهذا المكان منذ الأزل .. نعم أنا وأنت من سيشكل هذا التحالف، وعلى أحدنا أن يترك جانبه؛ ليعيش في الجانب الآخر حتى يتم هذا العهد.. ولأجلك سأترك عالم الجن، وأذوب في عالمك. سأنجب لك الأطفال، وستولد مع كل طفل منهم أسطورته. سيرثون منك القوة، ومني الجمال ومن كلينا الشقاء.»

ولكن الرجل فيه يدفعه يوما للزواج بأخرى، وهنا تحذره الجنية، وحين لم يصغ لها، تركت له الأولاد وهجرته للأبد، وحاول كثيرا بعد ذلك استرضاءها ولكنه لم يفلح، وهكذا أصبحت نقطة ضعف أبناء الغالي هي قلوبهم التي تجرّ عليهم المتاعب، وتذهب بهم في اللوعة والعشق والفناء.

وفي مقابل هذه الحكاية القديمة فإننا نشهد مع السارد المتجدد الحكاية الأكبر التي تتفرع وتنمو عبر فيها الأحداث في المكان الحاضر، حيث نشهد تبلور شخوصها التي تتقدم في بناء الحدث الدرامي، ونعيش معهم حكاياتهم التي تتفرع وتتلاحم وتبني الحكاية الأكبر. فعبر ثلاث عائلات كبيرة تتداخل فيما بينها في المكان والنسب والدم (وهي ولاد الغالي والخبابيط وولاد الصفار أو الميادير) تتفرع الحكاية لحكايات كثيرة، ولكنها تدور غالبا حول عائلة الغالي التي قررت الجن أن كل نسله يرزأون في قلوبهم وحول قوانين المكان الاجتماعية التي تحكم الإنسان وتشرع له حياته وقد تحددها أيضا.

إن أبرز ما يضفي قيمة فنية خاصة على هذه الرواية هو رسم الكاتب لشخوصه الكثيرة بدقة من الخارج للداخل، ثم رسم دورها العميق في صنع الحدث والذهاب في الحكاية نحو أفقها المكاني الخصب الذي يموج بالحركة والشخوص والأحداث، فكل شخصية في الرواية متحدثة أو صامتة، فاعلة بشكل كبير في بناء الحدث السردي أو توضيح دلالة روح المكان وثقافته بكثافة ووضوح. ومن تلك الشخصيات «الجدة رحمة بقوتها وحناناتها، والتي يهابها الجميع ويحبها أيضا من البنيان حتى سادة القوم، والتي بدأت معها الحكاية وانتهت بموتها.» جاءت تجرّ نفسها إلى حيث مصدر الصوت وعندما رأت حفيدتها مسجّاة بثياب عرسها على الأرض؛ أطلقت أنّة مكتومة وأخذت تردد: لقد قتلنا البنت.. لقد قتلنا البنت .. قبل أن تسقط مغشيا عليها» ، وحمود الصفار ابن خالتها التاجر القوي الذي كان يحبها لولا أن أعراف القبيلة حرمته منها، فتزوجت بابن عمها (محمد) الذي اختارته والذي كان يصغرها بسنتين، ثم مات في البحر بعد زمن قليل، فرفضت كل زواج بعده حتى من حمود الذي تعلّم السحر، ليحصل عليها، وربما كان له دور في موت زوجها. وأولادها بشير بهدوئه وقوته، وزيد بجنونه وعبثه ومجونه، ومهرة الدلاس الطفلة العذبة الذي خطبها زيد وتزوجها من المصنعة بعيدا عن أهله، وماتت بعد زمن قصير لأنه أهملها ومضى في عبثه مع النساء مخلّفة حسرة وألما في نفسه، وفقدا في العائلة جميعا حتى في نفس شقيقه بشير، بعد أن أنجبت له ثلاثة أطفال منهم شمسه الطفلة أغرمت بابن عمها الذي كان يصغرها فاهتمت به وتعلقت به أيما تعلق ثم ماتت حين زفّت لغيره «أدركت شمسة خلال مرض أحمد إلى أي حد هي متعلقة به، وهو متعلق بها، رأت ذلك في عينيه اللتين تنكسر حدتهما، وتشرق فيهما كواكب ونجوم عندما تلتقيان بعينيها، الخدر والسكون اللذان يحلان عليه عندما تمسح عناقيد العرق من على وجهه ورقبته.. رفضه الطعام إلا من يديها، المتعة التي تشعر بها وهي تقضي ساعات الليل الطويلة ساهرة بقربه. السعادة التي تملكتها عندما بدأت العافية تدب في جسده الهزيل. الرعب الذي يمزقها إن مرّ خاطر فقدانه في ذهنها. كل ذلك جعلها تدرك أن أحمد حياتها.» ، وبشارة زوجة بشير، وسعادة الدهانة التي حوّلتها الظروف لمومس، وابنتها راية التي أغرم بها ناصر الغالي وما كان لبنت مومس في مجتمع تحكمه العادات والتقاليد أن تجد السعادة إلا عبر طريق لا يمت للستر بصلة، ولكنها رفضت أن تعيش قدر والدتها فهربت مع سعدون العبد الذي أحب ابنة حمود الصفار فضربه وقيده بالسلاسل حتى أصيب بالجنون بعد أن زوجها لابن أخوالها ونفاها بعيدا عنه «قبل بزوغ الفجر حملت الصندوق الذي ورثته عن أمها وتسللت من غرفة الجدة رحمة إلى المخزن الذي أصبح مسكنا لسعدون، وجدته متكوّما على نفسه، هزته برفق ففتح عينيه، قالت: «هي نهض، وتبعها دون أن يبدي أي اعتراض، اخترقا الأزقة وغاصا في ظلام الغياب.» ، وسبيت الخانب الابن غير الشرعي لعبدالله الصفار شقيق حمود، و(معرس ينيه) الذي عشق جنية فأصابته لوثة بين الجنون والسحر، وسعيدة الدّاه، التي كانت تمضغ التنباك وطلقت زوجها كدلالة على قوة المرأة في المجتمع إن رغبت في التنكر لأعرافه.

هذه الشخصيات وغيرها تمثل نماذج إنسانية متعددة ومكررة للمكان (صور) الذي هو محور هذا العمل السردي بكل ما رسمه الكاتب من عادات وملامح وفنون ولهجة خاصة. فهذه الرواية تجعلك تعرف المكان كأنك عشت فيه، المكان الذي يمثل نقطة تفرد الكاتب ومحليته التي تصبغه بالتميز والعالمية، وهذا ما فعله سالم الغيلاني الذي رسم لنا بوضوح طبيعة المكان وخصائصه وثقافته ووعي وإنسانه وملامحه. المكان الذي استمد كل شيء من علاقته بالبحر والتصاقه به. «صور مدينة تعشق الفرح، وتحترف التعبير عنه. تعلمت من البحر أن لا شيء دائم، فالهدوء يعقبه صخب، والسكون يمكن أن يتحول إلى هيجان. فهذا الأزرق الذي أجج لدى أهالي المدينة الرغبة في الاكتشاف، وأطلق ألسنتهم بقول الشعر، فتغنوا على هدير أمواجه بالهولو واليامال، وفجرت تقلبات مزاجه في دواخلهم الخوف والشك وتوقع كل شيء. هذا الأزرق هو سرهم ومن أراد أن يعرفهم فعليه أن يعرفه أولا.

لقد وضع البحر لهم دستور حياتهم، ومنحهم الفرح، وجلب إليهم الفواجع ينظرون إلى زرقته تارة فيرون الحياة وازدهار الآمال، وينظرون إليه تارة أخرى فيرون الفواجع وفقدان الأحباب. علمهم بحنو أمواجه، وهدير عصفه أن اللحظة التي يعيشونها هي الحقيقة الوحيدة التي ينبغي أن يؤمنوا بها، وأن هدر الوقت في اجترار الأحزان حماقة كبيرة، وخطأ لا يغتفر، لذلك فإنهم يقدسون لحظات الفرح، ويجلّون طقوسها، فالرزحة عنوانه، وأفضل وسائل التعبير عنه»

إن حمرة الغياب رواية ناضجة بكل المعايير الفنية للكتابة الروائية (من عمق المضمون، وجماليات السرد، ورسم الشخصيات وتطور بنائها، وتعدد الحبكات، والنهاية الصادمة للقارئ)، وإن كان عليها ألا تسلم من المآخذ كأي عمل إنساني فهو ذلك الانشطار بين حكايتين، الذي لن يدرك القارئ فكرته إلا حين ينهي النص، إضافة إلى كثرة تضمين اللهجة التي قد تقف عائقا للقارئ من خارج المكان.