918514
918514
المنوعات

أشهر مائة كتاب غير أدبي: ـ الجين الأناني

05 فبراير 2017
05 فبراير 2017

روبرت مكروم -

إعداد : أحمد شافعي -

ما الإنسان؟ وما الغرض من وجوده؟ الملفت أنه لم يحدث حتى نشر تشارلز دارون كتابه «في أصل الأنواع سنة 1859 أن فكَّر أحد على مدار تاريخنا تفكيرًا منهجيًا في التصدي لسؤال السبب في وجودنا. كانت إجابة دارون البسيطة لذلك السؤال هي أن يبيِّن أن كلَّ سلالة على وجه الأرض -من القردة العليا إلى البشر، ومن الزواحف إلى الفطريات- قد تطورت عبر قرابة ثلاثة مليارات سنة من خلال عملية تعرف بالانتخاب الطبيعي.

ولكن حدث بعد الجدل الرهيب الذي أثير حول ذلك الكتاب عند نشره أن تعرضت نظرية دارون للإهمال وإساءة الاستعمال. وبعد مائة سنة، وفي ظل مناخ الستينات المبدع الصاخب، أن وجد جيل جديد من علماء البيولوجيا التطوريين الشباب الطامحين أنفسهم أمام فرصة نادرة: إعادة اكتشاف نظرية التطور وتجديدها. وهنا يدخل ريتشارد داوكنز خشبة المسرح: دارس شاب لعلم الحيوان في أكسفورد، ولد في إفريقيا، وقضى فيها فترة من نشأته. مقتفيًا خطى بعض الرواد البارزين من أمثال دبليو دي هاملتن، وجي سي وليمز، جمع داوكنز بين كثير من الخيوط المنفصلة في الفكر المتعلق بالانتخاب الطبيعي، ونظمها في إطار مفاهيمي متوصلا إلى معاني بعيدة في فهمنا لأفكار دارون. وأطلق على ذلك الجين الأناني، وهو عنوان أدرك لاحقا أن فيه صدى غير واع من «العملاق الأناني» لأوسكار وايلد. كان داوكنز على قناعة بأن نسخة موسعة ومطوَّرة من الداروينية الجديدة «قد تجعل كل ما يتعلق بالحياة منضبطا ومستقيما، في القلب وفي العقل». وكتب أن كتابه تمجيد لـ«رؤية الجين للتطور».

كان افتراض داوكنز البسيط والعميق هو أن «الوحدة الجذرية للانتخاب، ومن ثم للمصلحة الذاتية، ليست السلالة، ولا الجماعة، ولا حتى الفرد. بل إن الجين، هو وحدة الوراثة». وقد اعترف أن ذلك قد يبدو «في البداية أشبه برؤية متطرفة» لكنه مضى في استكشاف جميع مواضيع النظرية الاجتماعية الكبرى في ضوء هذه الفكرة، مجريًا دراسته المسحية بطريقة مسلية وسلسة القراءة للغاية. بفصول مثل «آلة الجينات» و«معركة الجنسين» و«اللطفاء ينتهون أولا» تعامل مع مفهومي الإيثار والأنانية، وتطور السلوك العدواني، ونظرية القرابة، ونظرية المعدل الجنسي، والإيثار التبادلي، والخداع، والانتخاب الطبيعي ذي الاختلافات الجنسية. وبأثر رجعي، يبدو ملائما أن يكون الجين الأناني قد صدر بعيد بهجة الجنس [لأليكس كمفورت] والخصي المؤنث [لجرمين جرير]

منذ الصفحة الأولى، يكشف داوكنز عن سردية منعشة وصادمة لرؤية الجين للحياة. يعلن أنه تجب قراءة الجين الأناني «كما لو كان أقرب إلى الخيال العلمي. فهو مكتوب ليلائم الخيال». وينجم جزء من إقناع الكتاب عن يقين داوكنز الآسر بأنه يستكشف عالما علميا لسنا فيه إلا «آلات باقية، أو مطايا آلية مبرمجة -بدون علم منهاـ من أجل الحفاظ على جزيئات أنانية تعرف بالجينات» مشيرًا إلى أن هذه الرؤية العميقة «حقيقة لم تزل تملؤني بالدهشة».

يكمن كثير من جاذبية الكتاب في الإثارة التي يستشعرها الكاتب، وفي نثر يفور بنشوة منهج جديد وفذ. في مقدمة إحدى طبعات الكتاب المتأخرة يصف داوكنز تأليف الكتاب بقوله إنه كتب في حالة تطرف في أوائل السبعينات و«في حمى من الإثارة»، وفي فترة بدت بأثر رجعي للكاتب الشاب «من تلك الفترات الغامضة التي تحوم فيها الأفكار الجديدة في الهواء».

كان محتويًا إذن لروح عصره، منذ صدوره للمرة الأولى، فلقي ترحابًا كبيرًا منذ البداية. ولم يبد في أول الأمر كتابا مثيرا للجدل حسبما كتب داوكنز لاحقًا. «واستغرقت سمعته ككتاب مثير للجدل سنوات حتى تكونت». ثم بات يعد في نهاية المطاف عملا شديد الراديكالية. ويمضي في كتابه أنه «في غضون السنوات التي اكتسب الكتاب فيها سمعة التطرف المتصاعدة، كان محتواه الفعلي يبدو أقل فأقل تطرفا».

وهذا أمر لا خلاف عليه: ففي حين خرج الجين الأناني من أرثوذكسية الداروينية الجديدة، فقد كان يعبر فعليًا عن الداروينية تعبيرًا كان دارون نفسه ليرحب به. وبدلا من التركيز على الكائن الفرد، نظر إلى الطبيعة من منظور الجين فكانت تلك حسبما قال داوكنز «طريقة مختلفة للنظر، لا نظرية مختلفة».

كما توجه الكتاب إلى «قراء ثلاثة خياليين»: العام، والخبير، والدارس، فضمن له ذلك سرعة الارتقاء إلى صدارة قائمة الكتب الرائجة في العالم كله. وفضلا عن اتساقه مع المزاج العام في عصره أعلن الجين الأناني عن نفسه منذ البداية بوصفه «كتابا في السلوك الحيواني» ذاهبا إلى «أننا، شأن غيرنا من الحيوانات، آلات خلقتها جيناتنا». و«نحن» بالنسبة لداوكنز لا تعني الناس وحسب. إذ أراد أن يتسع هذا اللفظ لجميع الحيوانات والنباتات والفيروسات. وكتب يقول إن «إجمالي عدد الآلات الباقية على الأرض يستعصي فعلا على الحصر» بل إن عدد السلالات نفسها غير معلوم. «وانظروا إلى الحشرات وحدها، تروا أن عدد الحشرات المفردة قد يصل إلى مليون مليون مليون».

بأسلوب سوف يتكرر لاحقا في كتب مثل «The God Delusion» لم يكن داوكنز بأي حال أقل شمولا من طموحاته. فقد استعمل هنا «الآلة الناجية» بدلا من «الحيوان» لما أراد أن يحوي جميع النباتات والحيوانات أيضًا. وقال إن حججه ينبغي أن تنطبق على أي من «الكائنات المتطورة».

قد يكون أرثوذكسيا في داروينيته الجديدة، لكنه في الفصل الحادي عشر صاغ فكرة عن التحول الثقافي سرعان ما استشرت في المجتمع الثقافي العالمي: الميم، أو الناسخ، أو وحدة المحاكاة. وأمثلة الميم تضم النغمات والأفكار والعبارات الرائجة والصرعات وطرق صناعة الأواني أو بناء الأقواس، فـ»مثلما تنشر الجينات نفسها في البحيرة الجينية بالقفز من جسم إلى جسم عبر المنيّ أو البويضات، تنشر الميمات نفسها في البحيرة الميمية عبر القفز من عقل إلى عقل من خلال عملية يمكن أن نسميها المحاكاة بالمعنى الواسع». وهكذا يمكن القول إن الصفحتين 192 و193 تلخصان أغلب مسيرة داوكنز المهنية الفذة، ففيهما وصلت نظرية التطور إلى تفسير مرضٍ وكامل لتعقد الحياة على الأرض.