أفكار وآراء

مفاوضات أستانة .. بين الفجوات والصفقات!!

03 فبراير 2017
03 فبراير 2017

علاء الدين يوسف -

«أصبح واضحا بما لا يدع مجالا للشك أن الصوت العربي لم يعد خافتا فحسب في تقرير مصير مستقبل سوريا ولكنه بات تقريبا هو والعدم سواء بعدما كرس مؤتمر الأستانة الأخير دور قوة ثلاثية دولية وإقليمية على مفاتيح الأزمة بينما باتت «عروبة» سوريا ذاتها في خطر بعد تكشف ملامح الدستور المقترح».   

لقد تردد بعد ختام أعمال مؤتمر أستانة أن من بين أهم بنود الدستور السوري الجديد الذي تمت صياغته في موسكو: شطب اسم«الجمهورية العربية السورية» واستبداله بالــ «الجمهورية السورية» ولم يعد الفقه الإسلامي مصدرا للتشريع بعد إلغاء الفقرة التي كانت تنص على ذلك، وعدم تحديد ديانة الرئيس بعد إلغاء المادة التي كانت تحدد ديانته بالإسلام، واعتبار اللغتين العربية والكردية متساويتين في مناطق الحكم الذاتي الثقافي الكردي، ويحق لكل منطقة وفقا للقانون أن تستخدم بالإضافة إلى اللغة الرسمية لغة أكثرية السكان إن كان موافقا عليها وتطبيق مبدأ «لا مركزية السلطات» واستبدال «جمعية المناطق» بدلا عن «الإدارات المحلية» في شكلها الحالي بصلاحيات موسعةّ تقيد بمركزية السلطات واستبدال تسمية «جمعية الشعب» بدلا عن تسمية «مجلس الشعب».

وتعني هذه المؤشرات فتح الباب أمام «فيدرالية» سورية تسمح بمناطق حكم ذاتي واستخدام لغات غير عربية، بل وفتح الباب أمام تغيرات سياسية وديموغرافية واسعة، هي بالتأكيد حصاد ما جرى في المباحثات الثلاثية وقبلها من تحضيرات، وليس هناك شك في أن مثل هذا الحوار لم يكن ممكنا قبل حدوث تحولات ميدانية كبرى على أرض القتال، فقد مثلت معركة حلب بالفعل موقعة تكسير عظام في لحظة فارقة جدا بالنسبة للصراع المتفاقم، واثبت التدخل الروسي في سوريا نجاحه في إنقاذ قوات الرئيس السوري من الانهيار، بل وأمدها بدافع لتحقيق الانتصار في المعارك، بينما في الغرب تحول القادة والسياسيون من المطالبة برحيل الأسد بشكل فوري إلى تقديم تنازلات بفضل الانتصارات التي حققتها قواته مؤخرا، وآخرهم بريطانيا التي أبدى وزير خارجيتها قبل أيام استعداد بلاده للحاق بالقطار الروسي والقبول بشروطه التفاوضية وعلى رأسها عدم الإصرار على رحيل الأسد وترك ذلك للعملية السياسية المنتظرة.

وبرغم بعض الإيجابيات التي ظهرت في البيان الختامي لمفاوضات أستانة وخاصة ما يتعلق بوحدة الأراضي السورية والتمسك بالدخول في عملية سياسية للتسوية، إلا أن حديث الصفقات لم يكن غائبا حتى قبل انعقاد المؤتمر، ولقد أجج مؤتمر أستانة على ما يبدو التنافس التركي الإيراني حول سوريا عبر موسكو، خصوصا بعدما عزز التقارب الاستراتيجي بين موسكو وأنقرة على حساب الجفاء الذي يتنامى في الخفاء ما بين موسكو طهران، فتحت شعار محاربة الإرهاب في سوريا والعراق تجلى التنافس بين تركيا وإيران، وبالتوازي مع رفض طهران أي تدخل تركي بالعراق وسوريا، استنادا إلى أن هذا التدخل يفتقد للمشروعية على خلاف إيران التي تتدخل في البلدين بطلب رسمي من النظامين الحاكمين فيهما، اشتعل التراشق الإعلامي بين أنقرة وطهران.

وسياسيا حدثت تحولات في الموقف التركي باتجاه أكثر برجماتية في التعامل مع معطيات الأزمة السورية وإعطاء الأولوية للحل السياسي ومحاربة الإرهاب والتركيز على مواجهة قوات حماية الشعب الكردي في شمال سوريا والتي تعتبرها تركيا حليفا لخصمها اللدود حزب العمالي الكردستاني وقد نجحت أنقرة في استبعاد الأكراد من المشاركة المباشرة في جولة الآستانة، كما حدثت تغيرات في الموقف الروسي وتحول من طرف مشارك في المعارك لصالح النظام إلى لعب دور اقرب إلى الراعي لمفاوضات السلام والضامن لتثبيت وقف إطلاق النار، وهو ما يمثل تطورا مهما في قيام روسيا بالضغط على الحكم في دمشق وحلفائه في الالتزام بوقف إطلاق النار، حيث تسعى روسيا للعب دور سياسي يعظم من دورها الإقليمي والعالمي، في ظل تراجع الدور الأمريكي ورفع إدارة ترامب يدها عن دعم المعارضة السورية والتركيز على مواجهة تنظيم داعش بالتعاون مع موسكو.

وعلى الجانب الآخر انتقدت إيران بشدة التدخل التركي في العراق وسوريا، بينما ردت أنقرة بانتقاد سياسات طهران في سوريا والعراق، كما أكدت طهران على رفض أي مشاركة من جانب أية أطراف إقليمية أو دولية في مفاوضات أستانة غير روسيا وتركيا وإيران وحكم الأسد، والمطالبة في المقابل بإشراك العراق.

وهكذا، فقد أماط مؤتمر أستانة اللثام عن مساعي الرعاة الثلاثة لتوسل أية إنجازات ولو على الورق فقط، فبينما أخفقت جهودهم في جمع وفدي المعارضة والنظام على طاولة واحدة توطئة لعقد جلسة مفاوضات مباشرة وحيدة تجمعهما، برغم نجاح المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في إنقاذ المفاوضات من موت في المهد عبر إقناعه وفد المعارضة بحضور الجلسة الافتتاحية، عكف الرعاة الثلاثة على شحذ الهمم لإنقاذ المفاوضات عبر الاتفاق على إصدار بيان ثلاثي في ختامها بعد تجاوز خلافاتهم بشأن محتواه، لكنه لم ينل اعتراف وفدي المعارضة والحكم السوري، ليبقى مستقبل التفاعلات الإقليمية كما ملامح علاقات القوى بين رعاة مؤتمر أستانة مرتهنين بمدى قدرة ثلاثتهم على إدارة خلافاتهم البينية بطريقة ناجعة، أو حتى تحييدها، بما يتيح لهم تقليص خسائرهم وتحصيل أكبر قدر ممكن من المغانم الاستراتيجية، وتقاسمها فيما بينهم، وإن كان على نحو غير متكافئ.

ومن الوارد أن تصبح مباحثات أستانة مفتاح الحل للأزمة، لكنها وبكل تأكيد لن تكون الحل النهائي الذي يتمناه السوريون برؤية بلادهم وقد توقفت فيها شلالات الدماء وأصوات الرصاص، فمن جهة المعارضة شارك أربعة عشر فصيلا مسلحا، غير أن هؤلاء لا يمثلون جميع الفصائل والمجاميع المسلحة التي تنشط على الأرض، فمازال هناك من يرفض الجلوس على طاولة المفاوضات، إضافة إلى الفصائل التي يتفق الجميع على أنها إرهابية، ويجوز القول أن مباحثات أستانة يسجل لها اقتصارها على هدف أساسي يتمثل في وقف النار في جميع الأراضي السورية وتثبيته دون الدخول في المزيد من التعقيدات السياسية، وقد عبر المعارض محمد علوش - رئيس وفد المعارضة - عن ذلك بوضوح عندما قال «لم نأت إلى أستانة للبحث عن تقاسم السلطة»، كما يسجل لها أنها كانت مع الفصائل الفاعلة على الأرض دون أن تقتصر كما في مباحثات سابقة على المعارضين السياسيين الذين لا يمتلكون ما يلزمون به المسلحين الناشطين على الأرض.

وما يسجل لها أيضا أن الرعاية كانت روسية تركية إيرانية بما تحمله روسيا وتركيا بالذات من قوة تأثير في المشهد السوري، إلا أن هناك الكثير من العمل تقع مسؤولية تنفيذه على الحكومة السورية والفصائل المسلحة المشاركة في مباحثات أستانة، كضمان عدم إفشال إيران لما تم التوصل إليه من اتفاق تحديدا أن ثمة خلاف كان من قبل المعارضين على الدور الإيراني، وبالتالي فإن أي خرق لوقف النار من جانبها من شأنه أن ينسف الاتفاق. وفي المقابل فإن على الفصائل الـ 14 العمل بشكل جاد لتنفيذ الاتفاق وعدم السماح لأي من الفصائل الأخرى خرقه تحديدا في المناطق الواقعة تحت سيطرة الفصائل التي ذهبت إلى أستانة.

ولكن تجدر الإشارة إلى أن المتغير الأمريكي الجديد والمفاجئ والمتمثل في دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إقامة مناطق آمنة داخل سوريا قد يخلط الكثير من أوراق اللعبة وقواعد التسوية الروسية، وأغلب الظن أن ترامب يعيد الدور الأمريكي مجددا للأزمة السورية ولكن وفقا لتجربة سابقة لواشنطن بإقامة مناطق آمنة في البوسنة والهرسك خلال حرب البلقان في التسعينات ولكن الهدف هذه المرة استيعاب اللاجئين والنازحين من مناطق القتال داخل سوريا للحد من تدفقهم على الولايات المتحدة والدول الأوروبية وليس تواجد أمريكا عسكريا على أرضية الميدان، والمؤسف في المسألة مرة أخرى هو إصرار ترامب على أن يلعب العرب دور الممول فحسب دون أي اعتبار أو اهتمام بوجود دور سياسي عربي في التسوية التي تبدو أنها بالفعل ما زالت بعيدة جدا، فالمسافات لا تزال متباعدة والفجوات عميقة بين الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية الفاعلة على صعيد الأزمة، وتقاربها يتوقف على طبيعة الصفقات المبرمة في الدهاليز والأروقة السرية.