907543
907543
إشراقات

الخليلي: وجوب الوصية ليس مشروطا بالقصاص لأن الآية لم تعطف على ما قبلها لأجل بيان استقلالية

02 فبراير 2017
02 فبراير 2017

الخطاب في هذه الآية للمؤمنين -

عرض: سيف بن سالم الفضيلي -

أكد سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة في تفسيره للآية (كُتِبَ عَلَيْكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِين) أن الخطاب في هذه الآية للمؤمنين وأنها لم تعطف على ما قبلها بل فصلت عنها لأجل بيان استقلالية هذا الحكم عن الحكم السابق فإن وجوب الوصية ليس مشروطا بالقصاص.

وأشار سماحته إلى ان الوصية أمر ينفذ بعد موت الموصي، ولذلك من كان يترقب الموت بسبب أو آخر، أو محكوما عليه بالقصاص أحرى بأن يحرص على كتبها، لتكون حجة له عند ربه، وسببا لفوزه ونجاته، وبهذا تسقط الوجوه التي ذكرها بعض المفسرين في اتصال هذه الآيات بما قبلها.

وأوضح أن الدين الإسلامي دين الفطرة، وعلاقة الإنسان بذوي قرابته علاقة فطرية، ولذلك جاء الإسلام ليؤصّلَ هذه العلاقة في المعاملات، فكما أن الله سبحانه وتعالى فرض حسن المعاملة في الحياة ما بين الأقارب؛ فرض أيضًا هذه الصلة ما بين الإنسان وقرابته بعد موته، حتى يكون هذا الميت على ذكرٍ من أولئك الأقرباء، ولا ينسوه بموته.

ومن أجل ذلك أيضًا جعل الله سبحانه وتعالى أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، فجعل الميراث للأقربين؛ سواء كانت هذه القرابة قرابة نسب، أو قرابة سبب .. وإلى ما جاء في التفسير.

في قول الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِين) هذه الآية من سورة البقرة، والآيتان اللتان بعدها تتحدث عن الوصية، كما ورد أيضا ذكرها في غير هذه السورة، إلا أن ما في هذه الآيات الثلاث من السورة من أحكام الوصية أبين وأشمل.

وهذه الآيات مرتبطة بالآيات السابقة قبلها والتي تتحدث عن القصاص؛ لأن القصاص يفضي إلى الموت إذا كان هذا القصاص قتلا، وهو أيضا مُسَبّبٌ عن الموت؛ لأن القتل قصاصا إنما يكون عقوبة على القتل.

والوصية أمر ينفذ بعد موت الموصي، ولذلك من كان يترقب الموت بسبب أو آخر، أو محكوما عليه بالقصاص أحرى بأن يحرص على كتبها، لتكون حجة له عند ربه، وسببا لفوزه ونجاته، وبهذا تسقط الوجوه التي ذكرها بعض المفسرين في اتصال هذه الآيات بما قبلها، كقول بعضهم: إنها معطوفة على ما قبلها، والتقدير: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)، و (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بِالْمَعْرُوفِ)، ولكن أسقط العطف لأجل طول الكلام، فإن سقوطه لا دليل عليه، وإن حَمل على ذلك بعضهم أيضا قولَه تعالى: (لا يَصْلاهَا إِلاّ الأشقى الذي كذب وتولى) أي: إلا الأشقى والذي كذب وتولى. وهذا مدفوع.

والخطاب في هذه الآية للمؤمنين الذين خوطبوا من قبل بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) ولم يتكرر الخطاب، حيث لم تبتدئ هذه الآية كما ابتدأت تلك بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) لقرب هذا النداء الموجه إلى المؤمنين في ذلك الحكم.

فصلت عنها

ولم تعطف هذه الآية على ما قبلها، بل فصلت عنه لأجل بيان استقلالية هذا الحكم عن الحكم السابق، فإن وجوب الوصية ليس مشروطا بالقصاص، فإن كل أحد إذا حضره الموت فالوصية المطلوبة منه في هذه الآية واجبة عليه.

والمراد بـ (كُتِبَ): فرض، كما في قوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى). و(إذا) هنا ظرفية تتعلق -على الصحيح- بقوله: (كُتِبَ)، وهذا الكَتبُ الذي كتبه الله سبحانه وتعالى على عباده وإن كان أزليا فإنما يتوجه إلى العبد عندما يحضره الموت، فلذلك جاءت: (إذا) هنا بعد قوله: (كُتِبَ) لتفيد أن هذا الأمر يلزم ويتحتم على العبد عندما تحضره أسباب الموت.

(حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) حضور الموت عبارة عن حضور أسبابه، كالمرض الشديد ونحوه، مما هو مظنة لترتب الموت عليه كالحكم عليه بالقصاص، ففي هذه الحالة يتحتم على العبد أن يوصي كما فرض الله سبحانه وتعالى عليه. ولم يقل تعالى: إذا حضركم الموت، بل قال: (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) لأجل بيان أن هذا الأمر يتوجه إلى كل أحد بذاته، فهو واجب عيني يتحتم على جميع أفراد هذه الأمة، وليس متوجها إلى مجموعها، بخلاف قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) فإن القصاص لا يجب على كل أحد فردًا فردًا، وإنما يجب على من تسبب له، ويجب على الأمة بمجموعها أن تعين عليه، بحيث يتمكن ذو الحق من الاقتصاص ممن عليه الحق.

وأُخّر الفاعل (الموت) وقدم المفعول (أَحَد) لأجل تأكيد هذا الوجوب، فإن تقديم المفعول هنا على فاعله يفيد الاهتمام، بأن كل أحدٍ يحضره الموت يتحتم عليه إنفاذ هذا الأمر إن توفر الشرط المذكور هنا.

وحضور الموت -كما قلت- حضور أسبابه، والعرب تكني بالموت عن الشيء الكريه، كما قال جرير:

أنا الموت الذي أخبرت عنه

فليس لِهاربٍ مني نجاء

ولا ريب أن أسباب الموت تؤدي إلى الموت، ولما كانت كذلك عُبِّر عنها بالموت، وإلا فبعد أن يحضر أحدًا الموت لا يتمكن من هذه الوصية المطلوبة منه.

الذي عنده مال

(إِن تَرَكَ خَيْرا): قال: (إِن تَرَكَ) ولم يقل: إن يترك؛ لأجل تقريب المستقبل ليكون كالشيء الواقع، فالمستقبل هنا متأكد، فالذي عنده مال قد حضره الموت فمن المتأكد أنه سيترك المال، فلذلك عبر بصيغة المُضيّ كما في قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ) والخير هو المال، وكثيرا ما يعبر في القرآن بالخير عن المال، فقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)، وحكى سبحانه عن عبده موسى عليه السلام قوله: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، وقال سبحانه وتعالى: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) أي غنىً.

(الوصية) هي نائب فاعل لـ(كُتِبَ)، فهي مرفوعة بـ(كُتِبَ)، ولم تدخل علامة التأنيث على (كُتِبَ) لأجل الفصل ما بين الفعل ومعموله؛ لأن التأنيث غير حقيقي، فإن الوصية يعبر عنها بالإنفاق.

والوصية مأخوذة من: وصّى يوصّي توصية، أو أوصى يوصي إيصاء، وقد جاء جميعا في القرآن الكريم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ)، وقال الله عز وجل: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ).

والوصية: فعيلة بمعنى مفعولة، وكلمة الوصية هي في الأصل: مُوصَّى بها، ولكن وصلت بالضمير، وأسقط الحرف الجار لأجل أن تأتي فعيلة بمعنى مفعولة، فإن فعيلاً بمعنى مفعول لا يكون من الفعل القاصر، أي الفعل اللازم غير المتعدي.

والوصية هي بمعنى الدعوة إلى فعل شيء أو تركه، كما في قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) أي يدعوكم الله إلى ذلك، وقوله: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) أي أمركم به، فالأمر والنهي داخلان فيما يُوصى به، فمن أمر بشي فقد أوصى بفعله، ومن نهى عن شيء فقد أوصى بتركه.

وإنما شاعت الوصية في عرف الناس -مع ما اشتقت منه كالتوصية والإيصاء- في أن يأمر أحدٌ أحدًا بفعل شيء بعد موته وفي حياته، ولكن في حال غياب الآمر، ويكون ذلك الشيء فيه مصلحة للأمير أو للمأمور.

وهي في العرف الفقهي في هذا الباب: جزءٌ من المال يأمُر صاحبُه بأن ينفذ عنه بعد موته في وجه من الوجوه المشروعة.

وقوله سبحانه وتعالى: (إِن تَرَكَ خَيْراً) شرط غائي، ولذلك فإن جوابه مفهوم مما قبله، ولا حاجة إلى تقدير جوابٍ، وأبعد ما يكون قول من قال بأن الشرط الأول وهو قوله سبحانه: (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) له جواباً يفهم مما سبق، والشرط الثاني وجوابه واردان تأكيداً لذلك الجواب، ويفهم جواباً الشرط الثاني من نفس جواب الشرط الأول وهذا تكلف.

بعض العلماء قدر: إن ترك خيرا فالوصية للوالدين، أي: فالوصية واجبة للوالدين. وعلى هذا فالوصية هنا مبتدأ، وهي وما بعدها من الخبر واقعةٌ في جواب الشرط، والفاء محذوفة على حد قول الشاعر:

*من يفعل الحسنات الله يشكرها *

ولكن حذف فاء الجواب لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، فلا يحمل عليه كلام الله سبحانه وتعالى، فمِنَ التكلف البعيد دَعَوى مَنْ يزعم بأن الوصية هنا مبتدأ، وأنها واقعة في صدر جواب الشرط والفاء محذوفة.

وقولُه سبحانه: (لِلْوَالِدَيْنِ): الجار والمجرور متعلقتان بالوصية؛ لأجل تأويل الوصية بمعنى الإيصاء، أي الإيصاءُ أو التوصية للوالدين.

و (والأقربين) هم سائرُ ذَوِي قرابة الإنسان من غير والدَيْه.

(بِالْمَعْرُوفِ) المعروفُ هو ما تَأْنَسُ إليه النفسُ ولا ينكره العقل، وإنما سُمّي معروفًا لأجل طمَأنينة النفس إليه.

(حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) تأكيدٌ لهَذا الكَتْب، أي الفَرْض، فإن ذلك أمرٌ متعيّن على كل مَنْ أراد أن يكون من الأتقياء، الذين يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بالطاعات ويتجنبون سَخَطه الذي يؤدي -والعياذ بالله- إلى عقوبته. وقولُه تعالى: (حَقّاً) مصدرٌ مؤكِّدٌ لقولِهِ: (كُتِبَ). والمعنى حق ذلك حقا على المتقين، أو كتب حقاً على المتقين.

لا يعني خروج العصاة من هذا الأمر

ولا يعني ذلك خروجَ العصاة من هذا الأمر وعدم تكليفهم به، بل العصاة وغيرهم مخاطبون به، وإنما قال سبحانه وتعالى: (حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) لأجل دفع النفوس إلى امتثال هذا الأمر، فإن كلَّ عاقل يحرص على أن يكون من المتقين، كما يحرص أن يكون من المحسنين، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى أيضا في المتعة الواجبة للنساء المطلقات: (حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) ففي هذا إثارة إلى امتثال أوامر الله سبحانه وتعالى.

وقد كانت الوصية معهودة عند العرب في جاهليتهم، كوصية نِزار بن مَعَدِّ بن عدنان لِبَنِيِه الأربعة، ولكنهم كانوا يَحِيفُون فيها، فقد كان أحدهم يوصي للأباعد لأجل الشهرة والفخر، ويترك الأقارب لأجل الاحتقار والازدراء، وقد يُوصِي للأغنياء ويترك الفقراء.

والدينُ الإسلامي دين الفطرة، وعلاقة الإنسان بذوي قرابته علاقة فطرية، ولذلك جاء الإسلام ليؤصِّلَ هذه العلاقة في المعاملات، فكما أن الله سبحانه وتعالى فرض حسن المعاملة في الحياة ما بين الأقارب؛ فرض أيضًا هذه الصلة ما بين الإنسان وقرابته بعد موته، حتى يكون هذا الميت على ذكرٍ من أولئك الأقرباء، ولا ينسوه بموته.

ومن أجل ذلك أيضًا جعل الله سبحانه وتعالى أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، فجعل الميراث للأقربين؛ سواء كانت هذه القرابة قرابة نسب، أو قرابة سبب.

كلام طويل للعلماء

وفي الآية الكريمة كلام طويل لعلماء التفسير والفقهاء وغيرهم؛ ذلك لأن: - طائفة من المفسّرين وغيرهم قالوا إنها منسوخة.

- وطائفة منهم قالوا هي مُحْكَمة وليست بمنسوخة.

- وطائفة قالت نُسِخَ بعضها وأقِرَّ بعضُها.

والذين قالوا بأنها منسوخة اختلفوا في الناسخ أيضا، فمنهم من قال: الناسخ آية المواريث، فإن الله سبحانه وتعالى أعطى فيها كلَّ ذي حقٍّ حقه، فلكل أحدٍ من الأقربين الأَدْنَيْنَ إلى الميت -كالوالدين والأولاد والأزواج- حقٌّ، وقد فَصَّل الله سبحانه وتعالى هذه الحقوق في آية النساء.

وذَكَر بعضُهم الاتفاق على أن آية النساء بعد هذه الآية الكريمة، وأنكره آخرون، وقالوا: لا دليل على أن آية النساء نزلت بعد هذه الآية.

ومن العلماء من قال بأنها لم تُنْسَخ ولا منافاة بينها وبين آية النساء، فآية النساء ذَكَرت الوصية، فقد جاء فيها قولُه سبحانه وتعالى: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) و (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) و (مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) و (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)، فإذَنْ آيةُ النساء مؤكِّدةٌ لِمَا في هذه الآية، وليس مدلُولها منافيًا لِمدْلول هذه الآية حتى يقال بأن تلك الآية نَسَخت هذه الآية، وهذا هو الذي عَول عليه ابنُ جرير الطبري، وقال بِهِ مِنْ قبله أيضًا كثيٌر من السلف.

ومما قاله ابن جرير الطبري في تقريره لهذا المعنى: إنَّ النسخ إنما يكون في حُكْمَين مُتنافِيَيْن، في حين أن ذلك الحكم الذي جاء في آية النساء ليس حكمًا منافيًا لِهَذا الحكم، وإنما هو موافقٌ له، فكيف يُقال إن ذلك الحكم نَسَخَ هذا الحكم؟

ومن العلماء مَنْ قال: إن آية النساء نسخت هذه الآية نظراً إلى أنّ الوصية ذُكِرَت فيها مُنكَّرَةً، فلو كانت هذه الوصية مُقَرَّةً لكانت مذكورة بالتعريف لأجل العهد فيقال -مثلاً-: من بعد الوصية التي يُوصي بها، ولكن الله تعالى قال: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) وفي هذا ما يدل ـ حسبما يقول هذا القائل- على أن تلك الآية رافعة لِهَذا الحكم الذي جاءت به الآية الكريمة. وحَمَل ذلك القائلُ التناِفَي والتضادَّ ما بين ما هُنا وما هناك على التنافي ما بين الإطلاق والتقييد، فقال: إن هذه الآية جاءت الوصيةُ فيها مُقَيَّدَةً، وآيات النساء جاءت الوصيةُ فيها مُطْلَقَةً، وعليه فالوصيةُ المقيَّدة تكون منسوخةً بالوصيةِ المطلقة المذكورة هناك؛ لأجل التنافي الذي بين التقييد والإطلاق. وهذا الكلام غير مُسَلَّمٍ به؛ ذلك لأن مِنَ القواعد الشائعة عند الأصوليين: أن المقيّد يقضي على المطلق وليس العكس، وهذا إذا وَرَدَ المطلق والمقيد معًا في حكم واحد وفي سَبَبٍ واحد. أمّا إذا لم يتفق التقييد والإطلاق في السبب وفي الحكم فَكُلُّ واحدٍ منها يُجرى مَجراه.

ومن ناحيةٍ أخرى فإن الإطلاق الذي في سورة النساء ليس بمُنافٍ للتقييد الذي في هذه السورة؛ ذلك لأن الوصية التي يوصِي بها الميتُ لا تنحصر في هذا الذي ذَكَره الله سبحانه وتعالى هنا، فقد يُوصي الميت بحقٍّ واجب عليه لأحد من الأبْعَدِينَ، أو يوصِي بكفّارة واجبة عليه فيما قصّر في عبادته لله سبحانه وتعالى، أو يوصِي بغير ذلك من حقوق الله أو حقوق الناس كالزَّكَوات والديون والضمانات وغيرها. وعليه فالوصية في آيات النساء في قوله سبحانه وتعالى: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)، وقوله: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ)، وقوله: (مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ)، وقوله: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) تشمل جميع أنواع الوصايا المشروعة، بينما الوصيةَ المذكورة هنا في هذه الآية لا تشملها. ومن المفسرين والفقهاء من قال بأن هذه الآية الكريمة نُسِخَت بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث). وقد رُدَّ على هؤلاء بأن هذا الحديث آحادي، أو لا يتجاوز مرتبة المستفيض، وأصلُ المستفيض آحادي، فلا يقوى الحديثُ الأحادي على نسخ آية من كتاب الله سبحانه، وإذا كان الحديث الأحادي لا ينسخ المتواتر من الحديث فكيف يُنسَخُ القرآنُ الذي هو أقوى حجة من المتواتر من الحديث بحديث آحادي؟ وأُجِيبَ عن هذا: بأن الحديث وإن كان أحاديا فإنه مُعْتضدٌ بالإجماع، وتَلَقَّته الأمة بالقبول، وأجْمَعَ المسلمون سلفًا وخلفًا على الأخذ به، ولذلك جاز النسخ به. ورُدَّ ذلك: بأن انعقاد الإجماع يخرجه عن كونه أحاديا، فإما أن يكون النسخُ بالإجماع نفسه، وإما أن يكون النسخُ بالحديث. أما الإجماع فلا ينسخ القرآنَ ولا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الاعتماد على الحديث، فالحديثُ لم يخرج عن كونه أحاديا. على أنّ دعوى الإجماع هنا مردودةٌ؛ نظرًا إلى أن هذا الحديث لَمْ يَحُزْ ثقةَ البخاري ومسلم، فلم يُخْرِجَاهُ في صَحِيحَيْهِمَا، فكيف يُقال بعد ذلك إن الأمة تلقته بالقبول؟

وذهب آخرون إلى أن النسخ كان بآيات المواريث في سورة النساء وبالحديث معًا، فالحديث اعتضد بآية المواريث، وعند هؤلاء يعد الحديثُ مُبَيِّناً لِمَا دلّت عليه آية المواريث. وذَهَبَ آخرون إلى أن الآية الكريمة غير منسوخة بل هي مُحْكَمة، وقد قال بهذا القول طائفة من علماء السلف، وذهب إليه من العلماء المتأخرين الإمام محمد عبده، وسمعتُ شيخنا أبا إسحاق اطفيش يعتمد عليه ويرجّحه في تفسيره لِهَذه الآية في دروسه التفسيرية التي سمعتُها منه.

ومُؤدَّى هذا القول: أنّ الوالدين قد لا يرثَان، ومع عدم استحقاقهما الإرث للمانع الذي يمنعهما منه لا يَمْنعهما ذلك حق الوالدية، فالله سبحانه وتعالى وصَّى بالوالدين على أي حال؛ إذ يقول: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا)، ويقول: (وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلى الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) ومن المصاحبة بالمعروف في هذه الدنيا أن يصلهما الإنسان بعد موته، وصلتُه لَهُمَا بعد موته بالوصية. فالآية الكريمة -على هذا القول- هي في الوالدَيْن المشركين، إذ مَنَعَهُما من إرثهما عدمُ دينونتهما بالإسلام الذي يدين به ولدُهما، إذ لا يرث الكافرُ المسلمَ ولا المسلمُ الكافر.

الجمهور على جوازها

وعدَمُ إرث الكافر من المسلم أمرٌ مجتمع عليه ولا خلاف فيه، ولكن هل تجوز الوصية للكافر؟

الجمهورُ على جوازها، وممّا يدل عليه: أن أمَّ المؤمنين صفية -رضي الله عنها- أوصتْ بجزء من مالِهَا لابن أخيها الذي كان لا يزال على اليهودية.

أمّا الذين ذهبوا إلى أن الآية نُسِخَ بعضها وبقي بعضها: فقولُهم أقرب إلى أن يكون من باب اعتبار أن هذه الآية الكريمة مُخَصَّصَةً بالحديث الشريف، وتخصيصُ العمومات القرآنية بالأحاديث أمرٌ واردٌ حتى ولو كان الحديث أحاديا.

وهذا القول مرويٌّ عن طائفة من العلماء، منهم ابنُ عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، فقد قال: نُسِخَ منها الوالدان وبقي الأقربون الذي لا يرثون.

وقد كان النسخُ يستعمل في عُرف السلف بمعنى التخصيص، وروي ذلك عن الحسن والضحّاك وأبي مِجْلَز وقتادة وعددٍ من علماء التابعين ومَن بعدهم.