913569
913569
إشراقات

حقوق اليتيم على الدولة والمجتمع.. من وجهة نظر إسلامية

02 فبراير 2017
02 فبراير 2017

الإطعام والإيواء وحفظ الميراث -

خميس بن سليمان المكدمي -

إن دين الإسلام دين حياة وإنسانية، ودين يقيم للرحمة وزنها يدعو إليها، ويحث عليها، ويأمر كل من رضى بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولاً أن يترسم هديها، ويتفيأ ظلها، ويحيي معانيها السامية الراقية، وهذه الدعوة إليها غير مختصة بالمسلمين فقط، بل جاءت لتعم الجميع، مسلمهم وكافرهم، قريبهم وبعيدهم، قاصيهم ودانيهم، أبيضهم وأسودهم، غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، سيدهم ومسودهم، أحرارهم وعبيدهم، بل وصلت إلى أبعد من ذلك حينما شملت الرحمة الحيوانات والجماد، يقول الحق - سبحانه وتعالى - في محكم التنزيل: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّة لِّلنَّاسِ بَشِيرا وَنَذِيرا) (سورة سبأ) فهو رسول الله إلى الجميع وهو رحمة الله إلى العالمين بأسباب رسالته وطاعة أوامره ينزل الغيث وينتفع العالم كله الدواب والشجر والحجر والجن والإنس والنباتات والحيوانات، فعن سلمان قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الله خلقَ -يوم خلقَ السماوات والأرض- مائة رحمة، كلُّ رحمة طباق ما بين السماء إلى الأرض، فجعلَ منها في الأرض رحمة، فبها تعطفُ الوالدةُ على ولدها، والوحشُ والطيرُ بعضُها على بعض، فإذا كان يومُ القيامة أكملها بهذه الرحمة). كما أن «السبب الذي جمع الناس حول رسول الله ليس أبدا قوة السلطان، ولا سطوة السلاح، إنما الذي جمعهم حقيقة -كما ذكر ربنا- هو رحمة الله التي ألانت قلب رسول الله فجاء على هذه الصورة الرحيمة متناهية الرحمة كما بيَّنا، ولا أريد أن أترك هذا الفصل إلا مع كلمات رسول الله الرقيقة، وعاطفته الرحيمة..يقول رسول الله:

«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ!» «إن من بين معاني الرحمة التي أحب أن أقف عليها، وهي جزء من جزئيات الرحمة العامة التي دعينا إلى حفظها حق الحفظ، ورعايتها أجل الرعاية، ألا هو الاهتمام ورعاية ورحمة اليتيم، فهو عنصر مهم، ولبنة أساسية يتشكل المجتمع منها، ولا يمكن أن تكتمل منظومة الرحمة دون الاهتمام بالأيتام والعناية بهم وتعاهدهم، فاليتيم في المجتمع حالة فريدة واستثنائية، يجب أن يخفق القلب لها، وتحن الروح شفقة عليها، فليس أصعب على قلب النفس البشرية من مكابدة آلام الفقد، ومرارة الحرمان؛ لأن غياب الأب عن ابنه غيابًا دائمًا يعرضه لصدمة نفسية، ووجع ما بعده من وجع، وهذا لا يمكن أن يجبر ما لم يلتفت المجتمع لهذه الحالة، فيضمها ضمة الإلف، ويحنو عليها حنو المتلطف البر الرحيم، فيسلو القلب بهذا العطف ويتسلى عن حدة الغياب، وتسد الفرجة التي كانت بمثابة شجا في الحلق، لتنمو وتشب تلك النبتة وتزهر إزهارًا حسنًا، لتنتظم مع بقية النبتات التي تتشكل منها الأرض الخصبة المعطاء، دون أن يكون بينها نبتات واهية رقيقة ضعيفة «ومن عجيب عناية الله تعالى بالأيتام أن سخر عبدا صالحا يركب البحر، ويقطع البر؛ ليصل قرية فيقيم فيها جدار ليتيمين لهما مال تحته؛ لئلا يضيع مالهما ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَة مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف].

إن صفوة الخلق وخيرة البشر -صلوات الله وسلامه عليه- كابد اليتم وعاناه، فقد مات عنه أبوه ولما يرى نور الحياة جنينا في بطن أمه، وماتت أمه وهو ابن ست سنين، فآواه خالقه وسيده ورعاه، وهي منة من الله عليه، وكرم من كرمه وفضله ونداه، يقول - جل جلاله قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما فَآوَى﴾[الضحى].

لقد كان يتمه -صلى عليه وسلم- مدرسة لكل يتيم، وتسلية لكل من حرم أبوته، وتعزية لكل من غيب الموت عنه أبوه الحاني، ولقد كان يتمه -صلوات الله وسلامه عليه- خير ما يسد الشجن والحزن ويدفع إلى المضي للأمام بهمة وعزيمة، دون انطواء وانكفاء واستسلام لمحنه، فبها تجتاز المحن، وبالتأمل فيه تتسلى القلوب الجريحة الحزينة.

لقد اهتم ديننا الإسلامي الحنيف باليتيم، وحث على تكاتف المجتمع حوله، ودعا إلى ضمه، وحث كثيرا وفي أكثر من موقف على رعايته بتلبية ما تحتاج إليه نفسه من طلبات ورغبات، وجعل النفقة عليه خير نفقة ينفقها الراجي لما عند الله من الأجر والخير الجزيل، يرجو أن يناله عند الله، قَالَ تَعالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة]، كما أنه أوصى عز وجل بحفظ مال اليتيم وصونه وتنميته وعدم التطاول أو التعدي عليه بأي شكل من أشكال التعدي، قال جل جلاله: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأنعام152].هذا وإن بلوغه أشده ليس مبررا لتسليمه ماله، ما لم يخضع هذا اليتيم للابتلاء والاختبار ومعرفة كيف يتصرف وما هي معرفته، أيحسن التصرف في إدارة ماله أم أنه يخفق، وهذا إجراء يهدف إلى صون المال وحفظه من العطب والتلف والذي هو صون لليتيم من الضياع بضياع أمواله، يقول ذو الجلال -سبحانه وتعالى- ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافا وَبِدَارا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ [النساء6]. وعلى ذلك وسعيا لتحقيق الهدف ذاته، فإن وصي اليتيم أو وليه قد يكون غنيا فلا يأخذ على تربية اليتيم ورعايته شيئا، وقد يكون فقيرا، وفي هذه الحالة له أن يأكل معه بالمعروف، واقرأ قول الحق سبحانه تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء]. ومن فتاوى الله تعالى في القرآن ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ سورة النساء، أي يفتيكم سبحانه أن تقوموا على مصالحهم الدينية والدنيوية بالعدل. إن التربية الدينية حق من حق اليتيم على القيم، فإن غاب عنه والده، وغيبته إرادة الله -جل ثناؤه- عن نصحه وتوجيهه، وتربيته وتأديبه فيجب أن يقوم به أوصياء الأيتام، وكل راغب في نيل ما عند الله فيعرف بربه ودينه ونبيه، والهدف من وجوده، والغاية التي كانت من خلقه، كل هذه أمور ينبغي ألا تفوت عن ذهنهم، فإنهم إن شبوا على عقيدة الصلاح، ومتابعة الدين الإسلامي الحنيف كانوا سعادة ونصرة وعزا ورقيا للأمة، وكانوا نعم السند ونعم الظهير، ونحن نعلم أن إهمال هذا الجانب سيعود بتبعات ومساوئ منها المادي والمعنوي، وفي سبيل إصلاحهم، وتوضيح الهدى لهم فلا ضير من تأديبهم، واستخدام الأساليب التربوية لسلامة سلوكهم وتصرفاتهم، وقد أجاب أحد الراسخين في العلم عندما سئل عن حكم تأديب اليتيم بقوله: «وإذا ساءت أخلاقه أدبه حتى يستقيم، حتى يكون شابًا مؤدبًا مثل أعز أولاده، فتأديبه لا بد منه، مثلما تؤدب أولادك تؤدب اليتيم الذي عندك وليس هذا من ظلمه ولا من قهره ولا من الإساءة إليه بل هذا من الإصلاح والإحسان إليه حتى تستقيم أخلاقه، وحتى يكون شابًا جيدًا مؤدبًا يضع الأمور في مواضعها ويضع الكلام في مواضعه.

وفي أمر الكفالة والمسارعة إلى إدراك الفضل في كفالة الأيتام ما يجلب البركة والخير في الدنيا والآخرة، وكفالته تعود بالخير وتساهم في بناء مجتمع سليم من دغل القلوب والحقد والغل، وفيها حفظ لذرية الكافل وتسخير الله لمن يهتم بشؤون أطفاله من بعده وهو دليل على حب الرسول الكريم صلوات الله عليه واستجابة لأمره ومضي على دربه، كما أن خير بيت للمسلمين هو بيت يكفل فيه يتيم والأفضال في هذا الباب كثيرة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ضم يتيما بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة) رواه أبو يعلى والطبراني وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه؟ قال: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك) رواه الطبراني وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم لا يفطر) رواه البخاري ومسلم، وغير ذلك من الأحاديث.

وأخيرا فإن من يقوم به كثير من المحسنين وما تضطلع به الهيئات الخيرية، لهي جهود مخلصة وجبارة يجب على المسلم أن يستشعر أهميتها ويسعى حثيثا في دعمها، وتشجيعها، فهو داخل ضمن العمل لهذا الدين، وسعي إلى سموه وعزه ورفعته، وشد من أزر الجهود المخلصة الطامعة في نيل الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى، وحين ترى هذا الحراك المجتمعي وهذا الاهتمام الفردي والجماعي في كافة الميادين، لأجل هذا اليتيم تقر عينك وينشرح قلبك وتسكن نفسك، ونحمد الله العظيم على أن أخرجنا من هذه الأمة العظيمة التي حملت لواء الإسلام وصدق الله العظيم حين قال جل ذكره: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ] (آل عمران) والله من وراء القصد.