شرفات

وحيد الدين خان.. مفكر برؤية علمية منهجية «1»

30 يناير 2017
30 يناير 2017

عبدالله العليان -

عرفت المفكر الإسلامي الهندي وحيد الدين خان، من خلال بعض مؤلفاته المترجمة من اللغة الأردية والانجليزية في القاهرة، وكان مترجم مؤلفاته ظفر الإسلام خان، وقد لاقت مؤلفاته اهتماماً من العلماء والمفكرين، من المهتمين والمتابعين لأبحاثه ودراساته التي ترجمت إلى العديد من اللغات العالمية، التقيت به عندما زار السلطنة في منتصف التسعينيات من القرن الماضي بدعوى من الجالية الهندية المسلمة عندما زار صلالة، وحاورته في العديد من القضايا الفكرية نشرت في جريدة عُمان آنذاك، وترجم سيرته الذاتية يقول عنه الشيخ محمد سليمان القائد في كتابه منهج الهداية سنة 1991: ولد وحيد خان سنة 1925في مدينة أعظم جره بالهند، وتعلم في جامعة الإصلاح العربية الإسلامية ثم توجه إلى الدراسة باللغة الإنجليزية، وظل وحيد الدين يقدم حصيلة فكرة بعد دراسات عميقة.وفي البدء انتظم في سلك لجنة التأليف التابعة للجماعة الإسلامية بالهند وعمل سنوات معدودة، ولأسباب فكرية انفصل عنها ثم أمضى ثلاث سنوات مكباً على التأليف في المجمع الإسلامي العلمي التابع لندوة العلماء بلكناو، ثم شغل رئيس تحرير الجمعية الأسبوعية في دلهي (1967) لمدة سبع سنوات حتى أغلقت المجلة من قبل السلطات الهندية، وفي أكتوبر سنة (1976) أصدر لأول مرة ـ ومستقلاً عن كافة الهيئات ـ مجلة (الرسالة)، ودأبت هذه المجلة الشهرية على الصدور حتى الآن، وقد نالت حظاً كبيراً من النجاح والقبول، كما ألف الأستاذ وحيد الدين عدة مؤلفات هامة، نذكر منها على الخصوص: (الإسلام يتحدى)، ( سقوط الماركسية، (الدين في مواجهة العلم) (حكمة الدين) (تجديد الدين) (الإسلام والعصر الحديث) (قضية البعث الإسلامي) (الإنسان القرآني) ( واقعنا في ضوء الإسلام)،وقد ترجمت هذه المؤلفات إلى العربية، ومن المؤلفات الهامة التي لم تترجم له: (محمد رسول الغلبة) (ظهور الإسلام) (الله أكبر) بالإضافة إلى تفسيره القرآن الكريم (تذكير القرآن) إلى غير ذلك من المؤلفات التي تربو على خمسين كتاباً، وآلاف المقالات المنشورة وغير المنشورة.

والميزة التي يمتاز بها وحيد الدين ـ كما يقول الشيخ محمد سليمان القائد ـ من بين أقرانه من مفكري العصر إدمانه القاتل على قراءة الكتب العلمية والفكرية باللغة الإنجليزية، ويمكن تقدير سعة اطلاعه وعمق دراسته من خلال مؤلفاته ذات المستوى العلمي الرفيع، والتي تظهر عمق ثقافته الإسلامية وتمكنه من ثقافة العصر. في حواري سألته عن كتابه( الإسلام يتحدى) الذي نشر صدر عام 1966، عن المجمع العلمي الإسلامي بالهند، وترجم في القاهرة الطبعة الأولى 1973..لماذا اخترت هذا العنوان للكتاب ؟ قال المفكر/‏‏‏وحيد الدين خان: إن هذا الدين جواب محدد لكل الأسئلة التي تؤرقنا في كفاحنا الحضاري، إنه يواجهنا إلى المشرع الحقيقي الطبيعي، وهو يضع لنا الأساس النظري للقانون، فهو يمنحنا أساساً صائباً لكل مسألة في الحياة البشرية، حتى يمكن لها الوصول إلى أعلى درجات الازدهار والرقي، ويهيئ الأساس النفسي،الذي يصبح القانون بدونه مشلولاً بلا حراك،وهو ما يخلق لنا ذلك المناخ المناسب الذي لابد منه لتطور أي مجتمع تطوراً حيوياً وفعالاً، ويقول في كتابه( الإسلام يتحدى) « إن قضية العصر الحاضر ضد الدين هي قضية طريقة الاستدلال، أعني الطريقة الجديدة التي كشفها العلم الحديث بعد التطورات في ميادينه العديدة، بحيث لم تعد تقف أمامها دعوى الدين وعقائده.

هذه الطريقة الجديدة هي معرفة الحقيقة بالتجربة والمشاهدة على حين تتصل عقائد الدين بعالم ما وراء حواسنا ولا يمكن إخضاعها للتجربة، (فالدين له مبنى على قياس واستقراء، وهذا هو ما يجعله باطلا لأنه ليس له أساس علمي. وقضية العصر الحاضر باطلة لأنها لا تقوم على أسس علمية، فالطريقة الجديدة لا تنفىي وجود أشياء لم تجرب مباشرة كما لا تنفي قياس أشياء لم نشاهدها على أشياء شاهدناها تجريبيا وهو ما يسمى (قياسا علميا)، ويعتبر كالتجربة المباشرة فالتجربة لا تعد حقيقة علمية لمجرد أنها شوهدت، كما أن القياس ـ كما يرى وحيد الدين خان ـ ليس باطلا لمجرد أنه قياس، فإن كان الصحة والبطلان موجود فيهما على السواء. كان الناس في القديم يصنعون السفن الشراعية من الخشب اعتقادا منهم أن الماء لا يحمل إلا ما يكون أخف منه وزنا، وحين قال بعضهم: إن السفن الحديدية سوف تطفو على سطح الماء كالتي من الخشب، أنكر الناس عليه مقالته واتخذوه هزوا، وجاء نحاس فألقى بنعل من حديد في دلو مملوء بالماء ليشهد الناس على أن هذه القطعة الحديدية -بدل أن تطفو على سطح الماء-استقرت في القاع، كان هذا العمل تجربة، ولكننا جميعا نعتقد اليوم أنها كانت تجربة باطلة فلو كان النحاس قد ألقى بطبق من حديد وشاهد بعينه صدق ما قيل من طفو السفن الحديدية.

في بداية القرن العشرين كنا كذلك نملك تلسكوبا ضعيفا، فلما شاهدنا السماء بهذا المنظار وجدنا أجراما كثيرة كالنور فاستنبطنا أنها سحب من البخار والغاز تمر بمرحلة قبل أن تصير نجوما، ولكنا حين تمكنا من صناعة منظار قوى وشاهدنا هذه الأجرام مرة ثانية، علمنا أن هذه الأجرام الكثيرة المضيئة هي مجموعة من نجوم كثيرة شوهدت كالسحب نتيجة البعد الهائل بينها وبين الأرض. وهكذا نجد أن التجربة والمشاهدة ليستا وسيلتي العلم القطعيتين، وأن العلم لا ينحصر في الأمور التي شوهدت بالتجربة المباشرة.

لقد اخترعنا الكثير من الآلات والوسائل الحديثة للملاحظة الواسعة النطاق، ولكن الأشياء التي نلاحظها بهذه الوسائل كثيرا ما تكون أمورا سطحية وغير مهمة نسبيا، أما النظريات التي يتوصل إليها بناء على هذه المشاهدات فهي أمور لا سبيل إلى ملاحظتها، والذي يطالع العلم الحديث يجد أن أكثر آرائه (تفسير للملاحظات)،وأن هذه الآراء لم تجرب مباشرة، ذلك أن بعض الملاحظات يحمل العلماء على الإيمان بوجود بعض الحقائق غير مشاهدة قطعيا، فأي عالم من علماء عصرنا لا يستطيع أن يخطو خطوة دون الاعتماد على ألفاظ مثل: (القوة) Force، و(الطاقة) Energy، و(الطبيعة)Nature، و(قانون الطبيعة)Law of Nature، وما إلى ذلك.

ولكن هذا العالم، كما يقول وحيد الدين خان، لا يدري ما (القوة والطاقة والطبيعة وقانونها)؟ فهو قد صاغ كلمات تعبر عن وقائع معلومة، لكي يبين عن علل غير معلومة، وهذا العالم لا يقدر على تفسير هذه الألفاظ تماما كرجل الدين لا يستطيع تفسير صفات الإله، وكلاهما يؤمن ـ بدوره ـ بعلل غير معلومة.وبهذا لا ينبغي القول بأن الدين هو (الإيمان بالغيب) وبأن العلم هو الإيمان (بالملاحظة العلمية)، فالدين والعلم كلاهما يعتمد على الإيمان بالغيب، غير أن دائرة الدين الحقيقية هي دائرة (تعيين حقائق الأمور) نهائيا أو أصليا، أما العلم فيقتصر بحثه على المظاهر الأولية والخارجية، فحين يدخل العلم ميدان تعيين حقائق الأمور تعيينا حقيقيا ونهائيا-وهو ميدان الدين الحقيقي- فإنه يتبع نفس طريق الإيمان بالغيب الذي يهتم به الدين.

ولابد من هذا السلوك في (الميدان الثاني) كما قال سير آرثر ادنجتن: (إن عالمنا في العصر الحاضر يعمل على منضدتين في وقت واحد، إحداهما: المنضدة العامة التي يستعملها الرجل العادي، التي يمكن لمسها ورؤيتها، وأما الأخرى: فهي (المنضدة العلمية) وأكثرها في الفضاء وتجرى فيها إلكترونات لا حصر لها ولا تشاهد)، ويستطرد سير آرثر أدنجتن قائلا: وهكذا نجد لكل شيء صورة ذات وجهين، أحدهما: (ملحوظ)، والآخر: (صورة فكرية) لا سبيل إلى مشاهدتها بأي ميكروسكوب أو تلسكوب،أما الوجه الأول فيشاهده العلم ويشاهده لمدى بعيد جدا ولكنه لا يستطيع أن يدعي أنه يشاهد الوجه الآخر.

وطريقة العلم الحديث أنه يقدم رأيا عن شيء بعد مشاهدة مظاهره.

وأما (الميدان الثاني) فهو ميدان معرفة حقائق الأشياء وتعيينها، و (العلم) في هذا الميدان البحث عن حقائق غير معلومة بوساطة حقائق معلومة،وعندما يجتمع لدى عالم من العلماء قدر مناسب من (الحقائق الملحوظة) فإنه يحس بضرورة وضع نظرية أو فرض علمي.

وبعبارة أدق: ضرورة فكرة اعتقادية ووجدانية، تقوم بتفسير الملاحظات وربط بعضها ببعض فإذا نجحت هذه الفكرة الاعتقادية في تفسير الحقائق تفسيرا كاملا عدت حقيقة علمية رغم أنها لم تلاحظ قط كما لوحظت الحقائق الأخرى التي نعرفها بالمشاهدة أو بالملاحظة العلمية.

ومعنى ذلك كما قول خان أن العالم يؤمن بوجود شيء غائب بمجرد ظهور نتائجه وآثاره، فكل حقيقة نؤمن بها تكون دائما (فرضا) في أول أمرها إلى أن نكشف حقائق جديدة تدعم صدقها فنزداد يقينا بها.

حتى نبلغ اليقين: وإذا لم تؤيدها الملاحظات اللاحقة تخلينا عنها.

ومن أمثلة هذه (الحقائق): حقيقة (الذرة) التي لا سبيل إلى إنكارها برغم أنها لم تشاهد قط بالمعنى المعروف، ولكنها تعتبر أكبر حقيقة علمية كشفت في هذا العصر.

وهذا هو السبب الذي دفع أحد العلماء أن يعرف (النظريات) العلمية بالألفاظ التالية:

(Theories are Mental Pictures, That Explain Known Laws)

(النظريات صور ذهنية تفسر القوانين المعلومة). حقيقة النظريات العلمية:وإن الحقائق التي تعرف في العلم باسم (الحقائق الملحوظة) ليست بحقائق شوهدت فعلا وإنما هي تفسيرات لبعض المشاهدات، لأن المشاهدة الإنسانية لا يمكن أن توصف بأنها (كاملة) ولذا فإن جميع هذه التفسيرات تعد (إضافية) ومن الممكن أن تتغير بتطور الملاحظة.

ويقول البروفيسور سوليفان بعد نقد وجهه إلى النظريات العلمية:

هذا العرض للنظريات العلمية يثبت أن معنى (نظرية علمية صحيحة) أنها (فروض عملية ناجحة(Successful Working Hypothesis)،ومن الممكن تماما أن يكون سائر النظريات العلمية باطلا ؛ ذلك أن النظريات التي نعتبرها اليوم (حقيقة) ليست إلا (قياسا على وسائلنا المحدودة للملاحظة) ولا تزال قضية الحقيقة في عالم العلم قضية عملية نفعية (Pragmatic Affair)ولا يزال العلماء بعد هذا يعتبرون أن الفرض الذي يفسر ملاحظاتهم لا يقل في قيمته عن (الحقيقة الملحوظة) نفسها فهم لا يستطيعون أن يقولوا: إن الحقائق الملحوظة هي وحدها ( العلم)، وإن ما سواها من النظريات الشارحة لا تدخل في نطاق (العلم) لأنها غير ملحوظة..

والحق أن هذا هو ما نسميه (الإيمان بالغيب) وهو بالنسبة إلى المؤمنين ليس سوى الإيمان بحقائق غير ملحوظة فهو ليس بعقيدة عمياء وإنما هو خير تفسير للحقائق التي يشاهدها العلماء، وكما رفض العلماء نظرية الضوء التي قدمها نيوتن وتعرف باسم Corpuscular Theory of light لأنها لم تنجح في تفسير مظاهر حديثة للضوء ؛ فإننا نرفض أفكار الفلاسفة الملحدين لأنها فشلت في تفسير مظاهر الطبيعة..

وللحديث بقية..