902938
902938
الاقتصادية

التجربة الهنديـة وآفــاق التنويــع الاقتصادي

19 يناير 2017
19 يناير 2017

سابع أكبر اقتصاد عالمي من حيث الدخل القومي -

الدكتور سعيد العيسائي كاتب وأكاديمي -

يعد التغير والتطور سمة لكثير من الدول كما في حالة الهند التي بدأت تنفتح على آفاق من التقدم في اكثر من صعيد، فإذا بدأنا بالجانب الصناعي يبرز أمامنا ذلك التقدم الذي بلغته في صناعة السيارات الذي تميز بارتباطه بعناصر الاقتصاد الأخرى الأمر الذي ولد فعالية اقتصادية كانت مطلوبة في بلد ذي كثافة سكانية، ناهيك عن نظام النقل السليم الذي شكل أحد عناصر البنية الأساسية لتلكم الصناعة التي أخذت تتنوع في منتوجاتها بحيث غطت مختلف أنواع المركبات العامة والخاصة والمتوسطة والخفيفة والشاحنات والحافلات ناهيك عن أنواع الدراجات البخارية والهوائية، حتى أصبحت الهند اليوم من أسرع الأسواق نموا في العالم ، كما اجتذبت الهند شركات عالمية مثل “جاكوار” و”لاند روفر” البريطانيتين، كما اشترت شركة “تاتا” الهندية مصنع “كوروس” البريطاني للحديد بحيث أصبحت هذه الشركة أكبر شركة من حيث التوظيف في بريطانيا.

وإذا انتقلنا من السيارات إلى السكك الحديدية فإنه بحلول عام 2017 يكون قد مر أكثر من قرن ونصف القرن على إنشائها في الهند وتعد خطوطها الثانية في الطول على مستوى العالم، ولم يسبقها في ذلك إلا الاتحاد السوفييتي، وهي من أوائل الدول التي استخدمت سكك الحديد التي أصبحت وسيلة الانتقال الأساسية في الهند، وبلغ عدد المحطات اليوم أكثر من (7000) محطة يستفيد من خدماتها أكثر من 13 مليون مسافر كل يوم، ومن اللافت أن كل محطة تتميز عن الأخرى، وتحتفظ بطابع خاص تفرضه طبيعة كل إقليم أو مدينة.  

وفي عالم الفضاء نجد أن المنهجية الهندية في هذا الحقل لا تبتعد عن مشروع النهضة لاسيما في بعدها الاقتصادي، فقد لوحظ أن البرنامج الهندي تميز عن غيره بارتباطه بالتنمية حتى إن أحد كبار الموظفين في منظمة أبحاث الفضاء الهندية أكد “ أن الهند دولة فقيرة ولا يمكنها لعب ألعاب قومية في الفضاء فهدفها الأول توفير أقصى دعم ممكن للفقراء”، بينما يوجد 18 قمرا هنديا وضعتها الهند في مداراتها للاستخدامات التنموية فإنها قد أضافت قمرا آخر للاستشعار عن بعد اختص بعمل الخرائط الجغرافية، أما عدد العاملين في مراكز أبحاث الفضاء هناك فقد تجاوز 16 ألف فني، ومن الجدير بالإشارة أن عمل هؤلاء العلماء كان يجري تحت شعار المبادئ الغاندية ، ولهذا لم تعد الهند فقط من أهم عشر دول في صناعة الفضاء وإطلاق الأقمار الصناعية فحسب بل أصبحت من أكثرها تميزا وخصوصية.

ولهذا وجدنا العديد من الدول تتطلع إلى الهند ككوريا الجنوبية وبورما وتايلند وتطلب منها إنشاء مراكز لاستقبال معلومات تتصل بعلوم الفضاء، ومن أبرز ما تميزت به الهند في مجال التكنولوجيا المتقدمة هو دخولها الباهر إلى عالم الحاسوب والبرمجيات حتى إن (سايبر آباد) الواقعة في مدينة “حيدر أباد” قد أصبحت معقلا للتقنية التي أخذت تتجه نحوها الأنظار دهشة وإعجابا، وبفضلها تحولت”حيدر أباد” الى قاعدة لتطوير البرمجيات للشركات الأجنبية لدرجة أن شركة “مايكروسوفت” اختارتها لإنشاء أول مركز لتطوير البرمجيات خارج الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الوقت الحالي تقوم شركات الحاسوب والبرمجيات الهندية بتأجير المبرمجين للدول والشركات في الخارج، حيث تتعاقد كبريات الشركات العالمية مع شركات هندية لتجهيز برامج الحاسوب بما فيها الأمريكية والأوروبية، وبهذا تفتح الهند لنفسها آفاقا جديدة في هذه المجالات المتقدمة.

والجدير بالذكر إنه بعد النجاح المذهل الذي حققته الهند في هذه المجالات استطاعت أن تظهر قوتها في مجال صناعة مكونات الحاسوب من خلال تطوير حاسوب (برام بادما) وهو حاسوب عملاق يستطيع أن يقوم بتريليون عملية حسابية في الثانية الواحدة، وهو الأضخم في منظمة آسيا و دول الباسيفيكي خارج الهند، وتعد الهند أكبر وجهة في العالم في قطاع تقنية المعلومات ويتولى هنود مراكز قيادية متقدمة في كبريات شركات الحاسوب وتقنية المعلومات منها (مايكروسوفت) و(جوجل) وغيرها من الشركات العالمية.

الهند تنوعت أيضا صناعيا حتى إن العمل الصناعي قد امتزج بالتجارة والجمال ، وهذا ما جسدته صناعة الحلي والمجوهرات حيث احتفظت الهند وعلى مدى سنوات طويلة بالريادة في هذا المجال على مستوى العالم تاركة بصمات مشرقة على هذا الصعيد.

وإذا كانت صناعة الذهب وفنونه قد أصبحت ذائعة الصيت، فإنه على مدى سنوات طويلة ومع مرور الوقت أصبحت الهند مؤهلة لأن تصبح مركزا عالميا لصناعة الحلي والمجوهرات بعد أن كانت احد المراكز الرائدة في تقطيع وصقل الماس، ومن المثير للدهشة أن ما يقرب 90% من هذه الصناعة التي يبلغ حجمها ما يزيد على 22 مليار دولار كانت عبارة عن مشروعات لا يتجاوز حجمها 111 مليون دولار.

فيما يسعى اليوم هذا القطاع إلى إنشاء “بورصة الماس” في “مومباي” التي تعد من أهم المراكز العالمية في صناعة الماس. وإذ عرفت الهند تاريخا بتجارتها العالمية فهي اليوم في ظل تقدمها الصناعي أصبحت أكثر توسعا في هذا المجال، لاسيما مع تنوع منتوجاتها وجودتها وجعلها في متناول قطاعات واسعة من المستهلكين في العالم، الأمر الذي أعطى للهند ثقلا تجاريا وعلاقات تبادلية واسعة مع الكثير من دول العالم حتى أصبحت الهند من الدول التي يحسب لها حسابها في هذا المجال، وأثبتت تجربة المشروعات الصغيرة في الهند نجاحا باهرا جعلها تمثل 95% من الوحدات الصناعية التي تجاوزت صادراتها أكثر من 14 مليار دولار بزيادة 28% .

أما عن صعيد الاستثمارات فمن المتوقع أن تبلغ 150 مليار دولار في البنى الأساسية خلال السنوات القادمة، ولعل الزيادة المطردة في عدد أصحاب الثروات الطائلة في الهند سيساعدها أكثر على توسع الاستثمارات لاسيما إذا عرفنا أن شقيقين هنديين يملك كل منهما أكثر من 40 مليار دولار.

ومع ارتفاع معدلات النمو وتوفر احتياطي النقد الأجنبي وزيادة الاستثمارات المحلية والأجنبية والزيادة الكبيرة في الصادرات وانخفاض معدلات الفائدة والبحث عن عمل وارتفاع مستوى دخل الفرد أصبحت مؤشرات الاقتصاد الهندي هي الأفضل على مدى تاريخ الهند المستقلة، ولهذا صممت أن تكون نمرا آسيويا خلال القرن الحادي والعشرين وهو القرن الذي وصف بأنه آسيوي بامتياز. وإذا جئنا إلى حقل السياحة فلا شك أنه قد شهد انتعاشا ونموا مطورين، ولقد أسفرت حملة تنشيط السياحة تحت شعار “الهند المذهلة” من زيادة أعداد السائحين، وكان شعارهم للسياحة الطبية “ بمقدورنا مداواة العالم”.

ومنذ 2004 برز مصطلح السياحة العلاجية بقوة على الساحة العالمية بعد أن استشعرت المستشفيات الهندية أن المزاوجة بين الرعاية الصحية والسياحة يمكن أن يمثل فرصة استثمارية عظيمة، والهند تجتذب إليها أكثر من 100 ألف مريض من الخارج كل عام، وتجرى في الهند أكثر من 60 ألف عملية جراحية قلبية كل عام، وهناك مرضى من أكثر من 55 دولة تتم معالجتهم في مستشفيات هندية.

قال جراح القلب الهندي الشهير الدكتور ( آن . أر . بورمان) لوكالة الأنباء الكويتية (كونا) ذات يوم : إن السياح يختارون الهند بسبب توافر الفرص الكبيرة في قطاع الرعاية الصحية من حيث كفاءة البنية الأساسية وتوافر أحدث ما تم التوصل إليه من تكنولوجيا، ثم أضاف: إن سوق التأمين الصحي والنظام الطبي الوطني في الهند متطوران جدا مما يجعل الأمر مريحا للزوار من الغرب والشرق الأوسط لاسيما أنهم يجدون أن نفقة العلاج في المستشفى معقولة مقارنة مع تلك الموجودة في البلدان الغربية وأوضح أن سوق “ السياحة الطبية “ في الهند تزيد قيمتها على 310 ملايين دولار، ومن المتوقع أن ترتفع قيمتها إلى ملياري دولار أمريكي خلال السنوات القادمة.

كما اعلن مصدر في وزارة السياحة الهندية إن قطاع الرعاية الصحية سيسهم بنحو أكثر من 8% من إجمالي الناتج المحلي للهند كما سيوظف نحو 9 ملايين شخص تقريبا، ويعمل في صناعة السفر والسياحة الهندية واحد من كل 9 أشخاص، ويبلغون حاليا ما يزيد على 20 مليون موظف تقريبا، وهناك خطة تهدف إلى تشجيع السياح للاستفادة من الخدمات الطبية في الهند التي تبلغ تكاليفها عشر ما هي عليه في الولايات المتحدة الأمريكية وسدس التكاليف في المملكة المتحدة.

وفي ضوء العرض المتقدم يمككنا القول: إن الهند تحقق في مجال التنمية الشاملة والمستدامة قفزات هائلة بما يؤهلها أن تتبوأ مكانة كبيرة في المجتمع الدولي، ويجعل منها قوة إقليمية لها تأثيرها في محيطها والعالم، وتعد الهند اليوم سابع أكبر اقتصاد عالمي من حيث الدخل القومي أكثر من (700 مليار دولار سنويا)، والرابع من حيث القدرة الشرائية بعد الصين والولايات المتحدة واليابان، وأكبر بلد في العالم من حيث الاستهلاك، كما تحتل المركز الأول عالميا في إنتاج الألبان، والثاني في إنتاج السكر والأرز والقمح حيث تحولت من دولة مستهلكة للحبوب إلى دولة مصدرة، والرابع في استخدام الآلات الزراعية المدنية، والسادس في إنتاج الطاقة الكهربائية.

التعليم هو القاعدة :

إن المتأمل لكل المعطيات النهضوية المتقدمة سيجد أن المنطلق الأساسي لذلك هو التعليم بل الولع به الذي أضحى سمة لدى الهنود عامة.

والحقيقة أن الثقافة الهندية طرأ عليها تحول لافت خلال العقود الثلاثة الماضية حيث أصبح تقدير النجاح والتفوق هاجسا لدى الإنسان الهندي المعاصر، ومن الطريف أن ثمار ذلك لم تقتصر على الداخل الهندي بل تجاوزتها إلى العالم الخارجي حيث كان العام (2005) عام التميز الهندي في الخارج، فقد انتخب (بوبي جيندال) لعضوية الكونجرس الأمريكي بينما تصدر عملاق الصلب (لكشمي ميثال) قائمة أغنى أغنياء المملكة المتحدة، وحقق العلماء الهنود في البلدان الأجنبية الكثير من الإنجازات.

فتكفي الإشارة إلى أن قائمة أفضل مائة مبتكر تحت سن 35 نشرتها مجلة (تكنولوجي ريفيو ) الصادرة من معهد تكنولوجيا (ماسا شوستس) ضمت 9 من الشخصيات الهندية، والحقيقة أن التعليم الهندي الذي استفاد من اتصاله بالخبرة الأوروبية طور قدرته في مختلف الحقول بل الأكثر من ذلك قد وطن العلوم بما فيها العلوم الطبيعية وألبسها خصوصية الإبداع الهندي، الأمر الذي جعل للهند ديناميكية علمية وريادة مستمرة فتحت آفاقا غير مسبوقة.

فإذا كان (هومي جهانكير بهابها) الذي بدأ أبحاثه النووية عام 1944 يعد أحد مؤسسي الهند الحديثة في المجال النووي، فإن الهند قد احتفلت في عام (2005) بذكرى مرور 75 عاما على فوز العالم الهندي (سي. في. رامان) بجائزة نوبل في عام الفيزياء كأول عالم يفوز بهذه الجائزة في آسيا. وإذا أردنا استعراض هذه الأسماء اللامعة فإن القائمة تطول، ولكن لابد أن نشير إلى أن ثمة جيلا قد تتلمذ على يد هؤلاء الرواد فاحتشد بهم المشهد العلمي المعاصر على النحو الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تتجه إلى هذا الجيل العلمي الصاعد وتستثمرهم في مختلف الحقول العلمية بحيث يمكننا القول إن الهند تعد اليوم من أكثر دول العالم في تصدير العلماء.

إن علاقة الهند بعمان علاقة وطيدة قديمة ضاربة في أعماق التاريخ، وقد تمت الإشارة في مؤتمر الشراكة العربي الهندي الخامس الذي انعقد في مسقط يومي 14 و15 من ديسمبر عام 2016 إلى أنه يعمل في عمان 800 ألف هندي في مختلف المهن، كما إنه يوجد 2900 مشروع مشترك بين السلطنة والهند.

وكتب لي أن أزور الهند وأن أكتب عنها مجموعة من المقالات لعل أهمها المقالة التي نشرتها في أحد أعداد مجلة العربي بعنوان “دروس من الهند” وأشرت فيها إلى قيم التسامح والتعايش والتواضع وحب العلم والعمل إلى جانب مجموعة التجارب والدروس التي يجدر بنا الاستفادة منها.

وأتيحت لي الفرصة للمشاركة في اللقاء العربي الهندي الذي نظمه اتحاد وكتاب أدباء الإمارات بالتعاون مع جمعية” كيرالا” في أبوظبي قبل عدة سنوات بورقة بعنوان “التواصل الثقافي والحضاري بين الهند والعالم العربي” وحضر اللقاء رجل الأعمال الهندي يوسف علي والسفير الهندي لدى دولة الإمارات الذي حرص على الحصول على الورقة من بين الأوراق المقدمة. كما قدر لي أن أقوم بتدريس مادة “الاقتصاد العماني” بكلية العلوم التطبيقية بالرستاق بعد عودتي من القاهرة مما كان له أثر في اطلاعي على بعض الجوانب المتصلة بالاقتصاد التي أشارت إلى أن سياسة تنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على مصدر واحد وهو النفط نظرا لتذبذب أسعاره وعدم استقرارها ليست وليدة الساعة بل كانت محل اهتمام المعنيين بالاقتصاد في الدولة منذ سنوات طويلة. كما أن سياسة تشجيع الاستثمار الأجنبي والشراكة مع الآخر من الأمور التي كان لها نصيبها فيما يعقد ويقام من دراسات وندوات ومؤتمرات وخطط وبرامج.

إن لدينا العديد من المقومات للتنويع الاقتصادي أهمها وجود البنية الأساسية وشبكة الطرق والمواصلات والمطارات والموانئ والمناطق الصناعية والاتصالات إلى جانب الأمن والاستقرار السياسي التي تدعم جميعها الخطط إلى السعي الحثيث لوضع الخطط موضع التنفيذ .

إن ما ذكرناه واشرنا إليه يدلل على أنه لدى الهند تجربة غنية في التنوع الاقتصادي يمكن الاستفادة منها فيما نحن مقدمون عليه من خطط ومشاريع وبرامج تنمية.