أفكار وآراء

التجسس الاقتصادي وعالم الأعمال

18 يناير 2017
18 يناير 2017

مصباح قطب -

زمن التجسس القديم انتهى. لم يعد الأمر بحاجة إلى حسناء ونظارة سوداء، وخاتم به كاميرا دقيقة ومسدس كاتم للصوت. ولم يعد بحاجة إلى رجل طويل القامة يرتدى معطفا ويسير خلف « العنصر» المراد تتبعه. قصة شائعة تقول إن الكاتب العالمي العظيم نجيب محفوظ تعرف في وقت من الأوقات على المخبر المكلف متابعته حينها، ونشأت بينهما صلة صداقة ، وكان محفوظ - واشفاقا على الرجل - يصحح له بعض المعلومات غير السليمة ليكون عمله دقيقا ، وحتى لا يتعرض للجزاء من رؤسائه، فاذا كتب في تقرير مثلا «ثم انعطف العنصر إلى شارع كذا»، ينبهه إلى ان الشارع اسمه كذا وليس كذا. المهم أن أخطر أنواع التجسس الآن هو التجسس الاقتصادي ذلك الذي أصبح مهنة منظمة بل وأصبحت مكافحته هي الأخرى «بزنس» مربحا، إذ قال لي الدكتور طارق سعدواي - استاذ تأمين الشبكات والنظم الالكترونية بجامعة ولاية نيويورك - إن عائدات بزنس التأمين السيبراني مرتفعة للغاية وعلى سبيل المثال فان عائدات شركة «سيمانتك» المتخصصة في الأمن السيبراني تعدت اثني عشر مليار دولار ويوجد حوالي 16 شركة تعدت عائداتها المليار دولار، ولذلك يدعو الدكتور سعداوي إلى أهمية الإسراع بإنشاء مركز أبحاث للأمن السيبراني وتدعيم هذه الصناعة، وهناك كثير من المصريين الخبراء في هذا المجال، ونذكر على سبيل المثال منهم د. عادل المغربي بجامعة لوى فيل بولاية كنتاكي ود طارق الجمل بالإمارات ود. شريف القصاص بالجامعة الأمريكية ود. شريف هاشم بمرفق الاتصالات وآخرين كثيرين في مصر والوطن العربي ويجب التركيز على دور الجامعات وأقسام الهندسة ودعمهم لدفع المعرفة والتقدم في هذا المجال. انتهى الاقتباس وأعاود فأقول: كل منافس في مجال الأعمال يطمح إلى معرفة ما لدى الآخرين من أسرار مالية أو تسويقية أو تصميمه أو ابتكارية أو تنظيمية أو تشغيلية أو تكنولوجية وبأي وسيلة ، لكن الذي في بالك في بال غيرك، والشاطر-كما نعرف- من يخطف معلومات غيره الصناعية والتقنية والابتكارية اولا ودون ان يترك بصمات !. طرق الخطف ونهب المعلومات والوثائق مختلفة ، فالعسكر والحرامية هنا يلعبون في الفضاء المعلومات أي غير المرئي، ونادرا ما يتم ضبطهم، بل انه يتم اكتشاف الجريمة في أغلب الحالات بعد أن تكون الفاس قد وقعت في الرأس أي حدثت الخسارة وتحققت.

في عصرنا الراهن لا يمكن فصل التجسس الاقتصادي عن القرصنة الالكترونية حيث أهم المعلومات لدى أي شركة أو مؤسسة أصبحت رقمية وبالتالي يمكن السطو الكترونيا عليها، وحتى برامح التأمين والحماية نفسها يمكن فيرستها أو شلها أو تحوير مهامها بما يضر مستخدمها ابلغ الضرر. فما هو السبيل الأنسب للحماية في مثل هذه الأجواء يا ترى ؟.

لقد تجدد اهتمام العالم بخطر التجسس الاقتصادي في أعقاب القرصنة التي تمت منذ نحو عام على قواعد بيانات شركة «سوني بيكتشر» وكبدتها خسائر ضخمة وتم اتهام كوريا الشمالية بارتكاب الجريمة وتدخل الرئيس الامريكي ذاته في الأمر لينذر ويحذر. تواكب مع ذلك ظهور تعبيرات جديدة مثل توازن الرعب الالكتروني بين الشرق والغرب . أين نحن من كل ذلك ؟. بل اين نحن مما يجري من سجال رهيب بين روسيا وأمريكا حول قرصنة بريد هيلاري كلينتون ومعلومات الحزب الديمقراطي الانتخابية مع اتهام من فعل ذلك بانه كان يقصد التأثير على الحملة الانتخابية وترجيح كفة ترامب ؟. لا يمكن لعاقل أن يصدق أن أمريكا لا تفعل الشيء ذاته مع روسيا وغير روسيا لكن الحياة هكذا اذا انكشف امر اختراق ادعى من كان المفعول به انه نقي السريرة عفيف الخطأ ويتحدث عن القانون الدولي بل وعن انطباق قواعد النزاعات العسكرية على الجرائم الالكترونية، وقد قال أوباما عبر الخط الأحمر لبوتين ذلك بالفعل.

لكن رغم التطور المخيف في برامج القرصنة الالكترونية لا يزال التجسس بالعين وبالأذن وباللمس والفحص البشري قائما وتتعاظم أهميته فهناك أمور لا يمكن لغير البشر الإلمام بها بدقة وبصفة خاصة كل ما يخص السلوك البشري والنفسيات والأحلام والتمنيات والكوابيس والمخاوف والأساطير والحب والكره وعلاقة المدير بالعمال ورئيس الوردية برئيس القسم وعامل الإنتاج بالإداري الخ؟.

علينا أن نتساءل : وإلى أي مدى يمكن القول أن بلادنا مستهدفة في مجال التجسس الاقتصادي، ومن الذي يقوم بذلك ؟ وما هي أدواتنا لحماية أمننا المعلوماتي وما مدى كفايتها؟ وان نبحث عمن يسرق المعلومات ونحدد الجهات الأكثر عرضة وأساليب السرقة وكذا أساليب التأمين ونطرح أيضا السؤال بشفافية: هل لدينا كعرب الكثير من براءات الاختراعات والابتكارات الجديدة والتصميمات والنماذج الصناعية لنخشى عليه بالفعل وما هي تحديدا وما القيمة الأعلى التي نخشى من قنصها أو السطو عليها ؟. حين نجيب بأمانة سنستطيع أن نوفر أمانا أكثر لمصانعنا ومنشآتنا. الخطر الشديد هنا كما يقول الجميع هو ضعف ثقافة التعامل مع التكنولوجيا -الهارد والسوفت معا- في الكثير من مؤسساتنا وفي بيوتنا ومدارسنا ووظائفنا وشركاتنا، ولذلك نتطوع كثير بكشف معلومات نظن أنها بسيطة لكن يمكن أن تترتب عليها عواقب خطيرة. تشيع في منشآت غربية كثيرة اعرفها ومنذ سنين ثقافة المكتب «زيرو» أي جعل المكاتب خالية من الأوراق تماما في وجود اي ضيف أو بعد انتهاء العمل كما لا يحدث أن يتطوع احد بالإجابة على ما لا يجب أن يوضحه ولا أقول يكشفه فلكل مستوى اداري حدود مرسومة بدقة في البوح . وما اسهل ان تسمع من الأجنبي ما لا يرضيك اذا سألته عما لا يعنيك.

واعقد ما في قصة القرصنة والتجسس الصناعي والاقتصادي هو الاحتياج الدائم الى التعامل مع اجانب فهم من ابتكر التكنولوجيا وهم من يملك معظم البرامج والنظم العالمية المعتمدة والنصيحة الوحيدة هنا هي ان الحذر واجب وانه لا تترك زمامك الالكترونى لمن لا تعرف ولا تركن الى عمليات تسليم المفتاح كما يجب ان تحذر من كل ما هو (ببلاش) فلا شيء مجاني حقا.

لقد قدم الامريكيون مثلا مساعدات لمصر في مجال أمن المعلومات ودعم شبكات الاتصالات وذهب وفد خبراء أمريكي تحت مظلة الخارجية الأمريكية لتقديم الخبرة للجزائر فكيف نضمن ان يكون تعاون الدول الأجنبية نزيها؟ ان الإجابة التي قدمها لي الدكتور سعداوي تقول :

«أي تعاون بين دولتين يجب أن يحقق مصلحة مشتركة للدولتين، ولذلك لا بد لمصر أن تعظم استفادتها من هذا التعاون، وخاصة في المجالات الحديثة والتكنولوجيا والمعرفة وبالطبع مع الحفاظ على امنها القومي وأساسياتها، ويمكن تعظيم هذه الاستفادة بوجود خريطة طريق واضحة لكل تخصص بحيث يتحرك كل مسؤول من خلال هذا الإطار».

يوجد في عدد من الدول العربية أيضا مقار لشركة استخبارات دوائية أوروبية الأصل وهي تجمع معلومات عن توزيع الدواء على كل الجهات السيادية، وغير السيادية وبتفاصيل التفاصيل وتبيعها بالفرنك للمحليين والعالميين فما الذي يضمن سلامة عملها؟. اليقظة والوعي ولا شيء آخر.

الحذر واجب أيضا عند التعامل في أمور لا تخطر على بالنا، فيجب أن نتعرف مثلا على كيفية استخدام الفحص النافي للجهالة للشركات والمصانع أحيانا في سرقة معلومات الشركات .وقد بادرت مصر منذ فترة بتأسيس مجلس للأمن السيبراني، وهي تجربة مهمة وقد علمت مؤخرا انها تمت بنصيحة خارجية في عام 2013 ، وظني أن على الدول العربية أن تتبادل الخبرة في كيفية تأسيس مجالس مثله ، وتفعيل أعمالها لتكون المراقب اليقظ لأي محاولة اختراق مؤسسة عامة أم خاصة.

[email protected]