أفكار وآراء

التصدي للقرصنة الإلكترونية.. الوعي هو الحل

17 يناير 2017
17 يناير 2017

د. عبد العاطى محمد -

برغم كل ما قدمه عالم الإنترنت من مزايا دفعت البشرية إلى المزيد من التقدم على مختلف الأصعدة، إلا أن المساوئ التي لحقت باستخدامه تسببت في إيجاد مناخ من الكراهية والعداوات المتبادلة ليس فقط داخل المجتمع الواحد بل أيضا بين الدول بعضها البعض . وحيث أضحت الحاجة ماسة لمزاياه بينما لا تبدو في الأفق آليات محددة واتفاقيات مضمونة للتخلص من مساوئه، فإن الوعي الإنساني يظل هو الحل الممكن للحد منها على الأقل.

وإذا كانت دولة بحجم الولايات المتحدة من حيث عناصر القوة والتقاليد السياسية قد عانت وما زالت تعاني من هذه المساوئ، يصبح من السهل تفهم أن المعاناة أشد عند من هم أقل منها في القدرات والتقاليد السياسية، مما يعني أن الهم يطول الجميع.

في الجلسة التي عقدتها لجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي لمناقشة ما أثير عن تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جاءت بدونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، تم مجددا فتح ما يسمى بالقرصنة الإلكترونية من حيث تأثيرها على علاقات الولايات المتحدة الخارجية، وعلى تشكيل الرأي العام الأمريكي.

ولاشك أن مناقشات اللجنة كان لها هدف أساسي هو دحض ما حرص ترامب مرارا على تأكيده بأن روسيا لم تتدخل في هذه الانتخابات وأن على الأمريكيين تجاوز المسألة وعدم الاهتمام بها. فقد اتفقت مداخلات القيادات الأمنية المعنية التي استدعتها اللجنة لسماع شهاداتها على أن روسيا تمثل تهديدا خطيرا للولايات المتحدة، وأنها كانت ضالعة في قرصنة الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وكما حدث من قبل سارعت روسيا بنفي هذا الاتهام، كما نقلت وكالات الأنباء اختيار ترامب لشخصية جديدة مديرا للاستخبارات الوطنية هو السيناتور السابق دان كوتس الممنوع من السفر إلى روسيا من جانب موسكو منذ عام 2014 ردا على العقوبات التي فرضتها إدارة أوباما آنذاك على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. وجاء هذا الاختيار محاولة من ترامب لتبديد المخاوف من أنه سيكون مهادنا لروسيا. ومع أن المناقشات توصلت إلى أن «القرصنة الروسية الإلكترونية» لم تؤثر في عمليات فرز الأصوات، إلا أنها ألمحت إلى أنها يمكن أن تكون قد أثرت على الرأي العام الأمريكي.

ولكن المناقشات تطرقت إلى ما هو أكبر من التحقيق في التقارير التي تتحدث عن تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية. ومن ذلك حروب المعلومات عبر الإنترنت بأدواته المختلفة وتأثيرها على عملية اتخاذ القرار، وكيفية النجاح في إدارة مصالح الدولة بعد أن أصبح الفضاء الإلكتروني (السيبراني) مستباحا لكل من له قدرة على استغلال هذه الأدوات، وكذلك دور هذه الأدوات في صناعة الأزمات في العلاقات بين الدول وفي تضليل الرأي العام. وفي هذا السياق لم يكن الطرف الروسي وحده موضع الاهتمام، وإنما تطرقت المناقشات لما تقوم به الولايات المتحدة ذاتها مثل غيرها من نشاط في هذا المجال، وما إذا كانت هناك أوجه قصور من جانب أجهزتها المعنية، وكذلك أنشطة دول أخرى مثل الصين وكوريا الشمالية كخصوم ودول أوروبا كحلفاء.

تساؤلات واستفسارات المشاركين في المناقشات وردود القيادات الأمنية المعنية كشفت أن ما يمكن تسميته بالحروب الإلكترونية وأبرزها «القرصنة» أصبحت واقعا لا يبدو في الأفق أنه بالاستطاعة وقفه، وأنه يتزايد كلما تدهورت بشدة العلاقات السياسية بين الدول .لقد أصبح أمرا طبيعيا أو معتادا في ظل استحالة السيطرة على الإمكانيات الواسعة التي يتيحها عالم الانترنت في مجالات المعلومات وما يسمى اليوم بــ «الجوسسة» الإلكترونية. ولكن فرص التحرك من خلاله تضيق أو تقل وتخضع للسيطرة النسبية في حالة وجود علاقات سياسية متوازنة، وتتسع في حالة وجود علاقات سياسية متأزمة للغاية.

هكذا قال جيمس كلابر مدير الاستخبارات الوطنية الذي تحدث في الجلسة: «روسيا اتخذت موقفا أكثر عدائية في مجال القرصنة المعلوماتية من خلال زيادة حجم هذه المعلومات وتسريب ما يتم الحصول عليه (نشره) واستهداف البنى التحتية الرئيسية..»، ولم تتردد القيادات الأمنية المشاركة في الإشارة إلى أن روسيا ما كان لها أن تتجاوز الخطوط الحمراء على هذا النحو إلا لو لم تكن قد حصلت على توجيه من أعلى السلطات (في إشارة إلى الرئيس بوتين). وهو ما يفسر غضب أوباما الشديد إلى حد طرد 35 دبلوماسيا روسيا من واشنطن. كلابر تطرق إلى مسألة أخرى تتعلق بتأثير القرصنة على الرأي العام, وذلك عندما قال: «أجهزة الاستخبارات كشفت أنشطة روسية ترمى إلى تقويض ثقة الرأي العام في المؤسسات والإعلام والخدمات».

وقد كان جون ماكين السيناتور الجمهوري المناهض لترامب ورئيس لجنة الخدمات المسلحة صاحبة جلسة الاستماع أكثر وضوحا في التعبير عن القلق من هذا التأثير عندما قال إن ما حدث كان هجوما أو عدوانا على الديمقراطية الأمريكية. ويعد ذلك القلق امتدادا لما كان أوباما قد شدد عليه في أعقاب الانتخابات وتوجيهه الاتهامات لروسيا بأنها سعت بذلك إلى إضعاف الولايات المتحدة من خلال تدمير القيم الديمقراطية التي قامت عليها قوتها الحقيقية في العالم.

وللمزيد من توضيح الصورة فإن ردود القيادات الأمنية تضمنت ما يفهم منه أن استهداف المعلومات وبنيتها التحتية يجعل صاحب القرار يتخذ قرارا خاطئا في نهاية الأمر دون أن يدرى. فالقرصنة تتدخل لشطب معلومات وإدخال معلومات بديلة مما ينتج عنه نتائج معاكسة لما كان يرمى إليه صانع ومتخذ القرار. كما أنها تقوم بإفشاء معلومات ما كان صاحبها يود كشفها مثلما حدث من جانب القائمين على حملة هيلاري كلينتون وترتب عليه إقصاء ساندرز منافسها القوي. ومن جهة أخرى فإن حروب المعلومات تصنع مشهدا مشوها أمام الرأي العام مما يدفعه إلى اتخاذ موقف زائف من هذه القضية أو تلك. وما الجدل الذي صاحب فوز ترامب إلا مظهرا لما اعتبره أنصار الحزب الديمقراطي تزييفا غير مباشر للانتخابات الرئاسية. و تعد القرصنة الإلكترونية في المجال الاقتصادي من أخطر صور حروب المعلومات لأنها تفسد التنافس وتعزز الاحتكار. وغالبا ما يركز القراصنة الصينيون على البحث عن الأسرار التجارية. وقد تسببت هذه القرصنة في تعكير العلاقات الصينية الأمريكية أكثر من مرة، حتى أن واشنطن أطلقت في عام 2014 ملاحقات قضائية بحق خمسة عسكريين صينيين بتهمة القرصنة المعلوماتية والتجسس الاقتصادي، ووقعت مع بكين عام 2015 اتفاقا للتعاون في هذا الشأن. وبرغم تراجع الأنشطة الصينية، فإن كلابر أشار أمام لجنة مجلس الشيوخ إلى أن الصين ما زالت تقوم بنجاح بأنشطة تجسس معلوماتية تستهدف المصالح الأمريكية.

ومن البديهي أن تشهد مناقشات لجنة الكونجرس السؤال الأهم: وما العمل؟

باستعراض موجز لما تم في التاريخ القريب لمواجهة الظاهرة كان هناك مساران، وهما إما فرض عقوبات في الأغلب اقتصادية، أو الاتفاق على وضع قواعد السلوك المسؤول للدول في هذا المجال. وقد تم بالفعل استخدام المسار الأول كوسيلة ردع ولكنه لم يوقف الظاهرة، وأما المسار الثاني فقد طرح منذ عدة سنوات ولم يفعل وليس من المتوقع أن يتم في الأجل المنظور على الأقل.

ولكن مناقشات اللجنة شهدت جديدا، حيث قال كلابر ردا على التساؤل السابق إنه من الصعب على الأجهزة المعنية أن تقدم حلا شافيا طالما الفضاء الإلكتروني أصبح مستباحا للجميع كل حسب قدراته في استغلال ما يتيحه من إمكانيات واسعة لاختراق أقوى الحصون الوطنية، وعليه من وجهة نظر كلابر فإن الوعي الإنساني لدى أي مواطن هو الحل، فهو وحده الذي يفرز الغث من الثمين، ويعاون الأجهزة المختصة في استباق وإحباط القسط الأكبر من التهديدات. ولكن ما أفاد به كلابر ليس كافيا وحده في الحقيقة، حيث يتعين توفير الأجواء السياسية التي تقف كحائط صد يقي الحكومات والشعوب من التعرض للقرصنة الإلكترونية، فطالما استمرت الخلافات السياسية تعصف بالعلاقات الدولية لن يتمكن المجتمع الدولي من وضع مدونة سلوك لضبط استخدام الفضاء الإلكتروني ولن تتمكن المؤسسات المشروعة من توفير الفرص والإمكانيات التي تخلق وعيا سليما لدى المواطن المعاصر يجعله يستفيد بمزايا هذا الفضاء ويتجنب مساوئه.

مناقشات اللجنة كانت مفيدة ليس للولايات المتحدة وحدها وإنما للآخرين، فلا شك تضع قيودا على اندفاع ترامب الشخصي للارتماء في أحضان روسيا، وقد جاءت مؤشرات النجاح سريعة في هذا الشأن. والدروس المستفادة للآخرين سواء من حيث الإجراءات أو السياسات عديدة وخصوصا أهمية التركيز على إنضاج الوعي الإنساني كحصن يحمى الدولة والمجتمع من الاستخدام السيئ للفضاء الإلكتروني.