أفكار وآراء

إشكالية.. العلاقات الدولية «الإلكترونية»

17 يناير 2017
17 يناير 2017

عماد عريان -

لا يستطيع أحد أن يتكهن في الوقت الراهن بما ستسفر عنه التفاعلات الجارية حول الهجمات الإلكترونية الروسية قبيل وخلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، التي تصر واشنطن - او بعض دوائرها على الاقل - على أن موسكو قامت خلالها بعمليات قرصنة الكترونية ضخمة كانت هي العنصر الحاسم في فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب على حساب المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، وقد أصبحت تلك القضية الشغل الشاغل ليس داخل أروقة مؤسسات وأجهزة الولايات المتحدة وحدها ولكن في كل أنحاء العالم على وجه التقريب باعتبارها الواقعة الأولى من نوعها التي تلعب فيها وسائل التواصل الاجتماعي العابرة للحدود دورا مؤثرا في انتخاب رئيس القوة العظمى الأولى في العالم من خلال عمليات « قرصنة إلكترونية».

وكذلك لأن نتائج هذه المواجهة لن تكون محدودة الزمان والمكان، بل إن تأثيراتها « الزمكانية» ستتجاوز آفاقا وحدودا لا يستطيع أحد تحجيمها في نطاق محدد. وأغلب الظن أنها سترسم خريطة جديدة للعالم وستغير الكثير من قواعد اللعبة في العلاقات الدولية على اعتبار أن نتائجها المؤثرة وأضرارها المؤكدة والمحتملة لا تقل خطورة عما يحدث في ساحات المعارك العسكرية المفتوحة، ولكن بدون إراقة دماء أو سقوط جثث و خسائر بشرية، ومن حيث المبدأ تستحق المواجهة الجارية بين موسكو وواشنطن المتابعة الدقيقة لأنها أولا ستلقي بظلال كثيفة على علاقات البلدين العملاقين وبدأت إرهاصاتها بالفعل بقرار الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما بمعاقبة موسكو بطرد عشرات الدبلوماسيين الروس من الأراضي الأمريكية وإغلاق عدد من المؤسسات الروسية العاملة في الولايات المتحدة ، وهي أول عقوبات من نوعها على هذه الشاكلة نتيجة اتهامات بالقرصنة الإلكترونية.

وثانيا لأن الاتهامات نفسها وما أسفرت عنه من تفاعلات وتداعيات لن تخرج من الشباك بمجرد دخول الرئيس المنتخب ترامب من باب البيت الأبيض بعد أيام معدودات، بل إن ما حدث سيظل يطرق بقوة ساحقة على أعصاب واشنطن وصولا للحقيقة الكاملة بما قد يترتب عليها من نتائج يصعب توقعها في الوقت الراهن وإنما ستخضع لتطورات الأحداث المستقبلية في المؤسسات الأمريكية السيادية وعلى رأسها الكونجرس بكل تأكيد، ويزيد من سخونة المواجهة تلك الانتقادات الحادة التي وجهها ترامب نفسه للمخابرات الأمريكية التي انتهت في تقاريرها النهائية إلى أن موسكو مارست بالفعل عمليات قرصنة هائلة وفقا لما أعلن، للتأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية بما يكفل هزيمة المرشحة الديمقراطية التي اعتبرتها وسائل الإعلام واستطلاعات الرأي الأمريكية في حينه الأوفر حظا للفوز بالمنصب.

وبالتأكيد لا يزال من المبكر جدا الجزم بأن « القرصنة الإلكترونية الروسية » - التي تبدو المخابرات الأمريكية واثقة جدا من حدوثها - هي العنصر الحاسم في فوز ترامب وهزيمة كلينتون، لأن إثبات القرصنة غير مقرون بشكل مباشر بقراءة ذهنية الناخبين وتوجهاتهم - قبل التصويت وبعده - بما يمكن من طرح معادلة رقمية تبرز نسبة التأثير المؤكدة لعمليات القرصنة الروسية، ولكن هذا لن يصرف الأجهزة الأمريكية المعنية والمختصة عن مواصلة طريقها لحسم هذه المسألة بكل أبعادها وتأثيراتها، وفي ضوء ذلك ليس من المستبعد أن تتحول تلك القضية إلى سيف حاد مسلط على رقية ترامب وأركان إدارته الجديدة بحيث يمكن استخدامها لأغراض سياسية خاصة ، فهي ككرة الثلج المرشحة للنمو بمرور الأيام، وإذا ثبت بدليل قاطع أن ترامب بالفعل استفاد بالقرصنة الروسية في الوصول للمكتب البيضاوي، فذلك يعني أننا أمام قضية شائكة مفتوحة على كل الاحتمالات.

وقد يكون من المناسب في هذا السياق استدعاء وقائع « فضيحة ووترجيت » التي أدت إلى محاكمة الرئيس الأمريكي الجمهوري الأشهر ريتشارد نيكسون سياسيا في مطلع سبعينيات القرن الماضي ثم عزله بعد ذلك قبل أن يستكمل فترة رئاسته الثانية بتهمة ممارسة التصنت والتجسس على مقر الحزب الديمقراطي خلال الحملة الانتخابية، وكانت المرة الأولى في التاريخ السياسي الأمريكي التي يتم خلالها عزل رئيس أمريكي منتخب، وقد يرى البعض أن ما جرى في واقعتي نيكسون وترامب مختلف ولا تشابه بينهما، إلا أن التأثير الخطير لواقعة « القرصنة الروسية » قد يدفع بالقضية في اتجاه مختلف وغير متوقع وقد يؤدي في أقصى تطور لها إلى مراجعة نتائج العملية الانتخابية بما قد يجعل ترامب « بطة عرجاء » في أضعف نتائجها أو على الأقل يبقى الرئيس الأمريكي الذي تمكن من تحقيق الفوز على أسنة الرماح الإلكترونية الروسية !

أما على صعيد العلاقات الدولية فنحن بالفعل أمام إشكالية خطيرة تدشن لزمن مختلف من السياسة الخارجية في عصر الفضاء الإلكتروني الذي يتطور يوما بعد يوم بسرعة مهولة ربما يعجز العقل البشري عن استيعاب كل إبعادها برغم أنه الصانع لها، وبدون شك سيستدعي ذلك وضع فصول جديدة من القوانين الدولية لحماية السلم والأمن « الإلكترونيين » واحترام السيادة الإلكترونية للدول وعدم الاعتداء أو التدخل « السيبراني » في الدول الأخرى، إننا بحق أمام تطورات جديدة وخطيرة ربما تحتم الدعوة إلى نظام سياسي عالمي جديد، وإذا كنا في الماضي القريب نتحدث عن مجموعة من القراصنة (الهاكرز)أو عمليات قرصنة محدودة هنا وهناك، والسطو على بطاقات الائتمان والسرقات الإلكترونية، وحتى الوصول إلى الاعتداءات الإلكترونية لشل وربما تدمير منشآت ومصالح استراتيجية لدى دول أخرى على غرار ما حدث في الاعتداءات الإسرائيلية الإلكترونية على بعض أجهزة منشآت البرنامج النووي الإيراني، إلا أن ما نشهده الآن يختلف كل الاختلاف عما سبق من تجاوزات أو مخالفات حيث أصبحنا بصدد مشهد متكامل لصياغة أوضاع سياسية لدولة أخرى عبر حرب الكترونية شاملة وعلى جبهات متعددة بدون طلقة رصاص واحدة أو إراقة قطرة دم مثلما سبق الذكر.

وقد تكون الصورة أكثر وضوحا واكتمالا بما أذيع وعرض وطرح أمام جلسة خاصة بهذه القضية لمجلس الشيوخ الامريكي ، حيث أكد المسؤولون في الاستخبارات الأمريكية«إن روسيا تمتلك برنامجا خاصا بالقرصنة متطور جدا ويمثل تهديدا حقيقيا لعدد كبير من المصالح الأمريكية». وكتبت تلك الشهادة من طرف جيمس كلابر أبرز مسؤول مخابرات أمريكي، ومارسيل لاتر وكيل وزارة الدفاع لشؤون الاستخبارات، والأدميرال مايكل روجرز مدير وكالة الاستخبارات القومية. وفي سؤال للنائب الجمهوري ماك كاين بشأن ما إن كان ذلك التسلل الروسي«جريمة حرب» فأجاب كلابر بأن المسالة سياسية ذات مسؤولية سياسية كبيرة، وأنه لا يعتقد أن من مسؤولية رؤساء أجهزة الاستخبارات تقدير الإجابة على ذلك.

وفي الختام تجدر الإشارة إلى هذه الكلمات المهمة :« لست مندهشا، فهذه الحكومات تريد أن تحافظ على سلطاتها وعلى مصالح الطبقة الغنية التي تخدمها،وسوف تستخدم الحكومات كل التقنيات الممكنة لمحاربة عدوها الأول؛ الشعوب» كلمات قالها قبل سنوات المفكر الشهير ناعوم تشومسكي معلقا على تسريبات التجسس الأمريكي على الإنترنت، وأغلب الظن أن المشهد الراهن قد تجاوز هذا الوصف بكثير ولكنه يعكس التحولات المنتظرة لممارسات الفضاء الإلكتروني على الصعيدين الداخلي والدولي، فميدان المعركة لم يعد فقط في البر والبحر والجو، بل أيضا في عقل الخصم ومجتمعه بأفكاره وثقافته،وفي قلوب الحلفاء بما يضمن مساندتهم،وفي أي مكان يمكن إضعاف الخصم فيه،وهو ما أسماه خبير أمريكي« فضاء المعركة» وفي هذا الفضاء تدور الحرب في «بيئة معلوماتية» وليس في ميدان المعركة التقليدي، فالمعلومات بطبيعتها جاهزة لأن تتحول إلى سلاح. وفي هذه البيئة تصبح الثقافة ميدانا أساسيا من ميادين المعركة يحل فيه التجسس الثقافي محل التجسس العسكري،

وفي هذه البيئة المعلوماتية التي أصبحت الميدان الأساسي للحرب يتم استغلال القدرات العسكرية للإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي كأحد أعمدة «استراتيجية الاتصال» والتمكين المعلوماتي والثقافي لأكبر عدد ممكن من المواطنين في دولة «العدو» وزيادة قدرتهم على التأثير على مجريات الأمور، ومن استخدام كل أنواع تكنولوجيا الاتصال وقدرتها على خلق شبكات وأنماط تنظيمية وجماعات جديدة وبسرعة لزيادة قدرة هذه المجموعات على التعلم والتأثير والبقاء. لقد أصبح العالم بالفعل أمام حقائق علمية وتكنولوجية جديدة تستوجب كذلك فكرا وثقافات من نوع جديد .