894836
894836
إشراقات

الأزمـات الاقتصــادية .. حلـــول إسلامية .. وتعاون مجتمع

12 يناير 2017
12 يناير 2017

الابتعاد عن مسبباتها -

د. ناصر بن علي الندابي -

894820

«الابتعاد عن الإسراف والتبذير والبذخ، فقد أهلك من كان قبلكم كفرهم بالنعمة والأخذ بمظاهر الأبهة وظهور الطبقات بين الناس بمقياس المال، وهذا الأمر فيه محق للبركة ونذير شؤم بنزول العقوبة من رب العزة وعلى رأسها ظهور الغلاء والقحط، منع الزكاة مؤذن بوقوع مثل هذه الأزمات بل هو سبب مهم فيها فقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في معرض التحذير من عدة أمور»

يشتغل الشارع العماني في هذه الفترة بالأزمة الاقتصادية التي تعصف ببعض الدول بما فيها عماننا الحبيبة، وأصبحت الأزمة الشغل الشاغل لكل فرد عماني وغدت حديث المجالس، ومرتعا خصبا لكل وسائل التواصل الاجتماعي، وسار الحديث عنها يملأ الصحف والمجلات، ونسمعه ونراه في شتى الوسائل الإعلامية المسموعة والمقروءة.

إذن فلا مناص من الحديث عن هذه الأزمة بوجهة تاريخية دينية، ونطرح أسئلة عدة هل هذه الأزمة التي تمر بها عمان اليوم هي الأولى من نوعها على مستوى تاريخها الغابر، وإن كانت هذه ليست الأولى فكيف السبيل للخروج منها؟ وهل توجد حلول إسلامية يمكن أن تصنع لنا طريقا واضحا للتخلص من هذه الأزمة ومن تبعاتها؟

إننا حين نرجع بعقولنا إلى تاريخنا البشري المنبثق من كتاب الله عز وجل نجد أن الأزمات الاقتصادية هي منعطفات تمر بها الإنسانية بين الفينة والأخرى ولعل أفضل مثال لها في كتاب الله العزيز هذه الآيات الكريمة «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ».

إن هذه الرؤيا التي رآها الملك كانت نذيرا بوقوع أزمة اقتصادية شديدة في مصر، تأتي على الأخضر واليابس، ولقد حكى لنا القرآن الكريم هذه الأزمة وبصّرنا بالحلول التي وضعها النبي يوسف عليه السلام بإلهام من رب العزة والجلال، فأوضح أن لا حلّ ناجع لها سوى الاستهلاك بقدر الحاجة وادخار ما تبقى للسّنوات العجاف التي ستمر على مصر، حتى يأذن الله عزوجل بالفرج.

لم تكن تلك الأزمة الاقتصادية لسنة أو سنتين بل كانت لمدة سبع سنوات، ولكن حين شعر الكل بالمشكلة تكاتفوا فوضع الحاكم والمحكوم أيديهم معا للخروج منها فالكل على سفينة واحدة الربّان والبحارة والكل يسعى لإيصال السفينة إلى برِّ النجاة، على الرغم أن هذه الأزمة كما هو واضح لم تكن بأيدي البشر بصورة مباشرة بل كانت ابتلاء محضا من الله عز وجل وهي منع القطر عن الأرض لتصبح جدباء قاحلة خالية من العشب والثمر.

وقبل أن ندخل في عرض بعض الحلول لهذه الأزمة دعونا نمر سريعا على تاريخنا الإسلامي لنستجلي منه بعض الأزمات التي خيّمت على البلدان الإسلامية عبر عصورها القديمة.

ولا ريب أنَّ العالم العربي قبيل شروق الإسلام عليه كان يمر بأزمات عدة على رأسها الأزمة الدينية التي اجتاحت العرب فجعلتهم يبتعدون عن دين التوحيد ليحلوا محله عبادة الأوثان والأصنام، كما صاحب هذا الانحراف الديني انحراف اقتصادي كبير حين سيطر الأغنياء على الأموال فبرزت الطبقية في المجتمع العربي وهي في الحقيقة أزمة اقتصادية نظرا لسوء التصرف في المال وجعله دولة بين الأغنياء.

ولا غرابة حين نجد نبي الهدى والرحمة يهتم بهذا الجانب ويوليه جلّ اهتمامه، وبرز ذلكم الاهتمام في السوق الإسلامي الذي أسسه عليه الصلاة والسلام بعد الانتهاء من بناء مسجده الشريف مباشرة، فقد بنى سوقا خالياً من الاستغلال والمعاملات السيئة التي اعتادها العرب سابقا والتي شكلت الأزمة الاقتصادية التي ذكرناها سلفا، ونادى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في أصحابه قائلا لأصحابه: «هذا سوقكم فلا يُنتقصن ولا يُضربن عليه خراج».

وحين تمر أزمة اقتصادية بالدولة في عهده صلى الله عليه وسلم كان هو القدوة والأسوة لأصحابه في التعامل معها فلم يكن بمنأى عنهم ولا بعيدا عن حياتهم وظروفهم التي تمر بهم.

ثم يذكّرنا التاريخ بتلك الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي وقعت في عهد الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب في نهاية العام السابع عشر الهجري وبداية العام الثامن عشر الهجري، والتي سميت بعام الرمادة، فقد تعامل معها الفاروق تعامل الحاذق العارف بهذه السنن الكونية التي تقع للإنسان ويبتلى بها المؤمن في حياته.

ولما نصل إلى العصر العباسي نجد الكثير الكثير من الأزمات الاقتصادية التي مرت على هذه الدولة بدءا من الأزمة الاقتصادية التي وقعت في عام (193هـ /‏‏ 808م) بسبب الصراع الذي وقع بين الأمين والمأمون واستمر قرابة خمس سنوات تردت فيها الأوضاع وساءت فيها الأحوال وأتت على جميع ما في خزانة الدولة.

ثم ظهرت أزمة اقتصادية أخرى حينما سيطر الأتراك على الأوضاع السياسية ما بين عامي (247 – 256 هـ /‏‏ 861 – 869 م) كادت الدولة أن تسقط بسببها، ثم حلّت أزمة أخرى استمرت قرابة خمس عشرة سنة بسبب ثورة الزنوج التي بدأت عام (255 هـ /‏‏ 868 م) اضطر فيها الموفق بالله إلى الاقتراض من التجار وأصحاب الأموال نظرا لإفلاس خزينة الدولة، وغيرها من الأزمات الأخرى التي يكون سببها الأساسي الأزمات السياسية والثورات وبعض الأحيان سوء تصرف الحاكم وإدارته وبذخه.

وتتابعت على الدولة الإسلامية الكثير من الأزمات الاقتصادية بعدها، ولم تكن عمان بعيدة عن هذه الأحداث فلطالما وقعت فيها الكثير من هذه الأزمات بسبب الجفاف والقحط أو بسبب السيول الجارفة والأمطار الشديدة، أو بسبب الثورات والقلاقل الداخلية التي تؤدي إلى أزمة اقتصادية يعاني منها الكل، ولعل من أبرز الأمثلة تلك الأزمة التي وقعت في عمان زمن الإمام الصلت بن مالك الخروصي في القرن الثالث الهجري حين اجتاحت السيول الكثير من البلدان وأغرقت الكثير من المنازل والسهول، فتعامل معها الإمام بنوع من الفطن والذكاء وعوّض المتضررين منها من بيت مال المسلمين.

ولا ننسى في هذا الصدد تلك الهجرات العمانية الكثيرة في السنوات الماضية إلى الدول الأخرى بحثا عن لقمة العيش، نظرا للأوضاع السياسية المتردية في النسيج العماني.

كما لا ننسى تلك الأزمة الاقتصادية العالمية التي عصفت بكل دول العالم عام 2007م والتي ارتفعت فيها الأسعار وتأزمت فيها كل الدول، وطبعا لا يمكننا في هذه العجالة ان نتتبع كل الأزمات التي مرت بالعالم الإسلامي وما ذكرناه يكفي للتمثيل والعبرة.

ونحب أن نسطر هنا مقترحات وحلولا قدمها الإسلام وطبقها السلف الصالح للخروج من مثل هذه الأزمات، يأتي على رأسها اللجوء إلى رب الأرباب ومسبب الأسباب بالدعاء والتضرع لرفع مثل هذه الابتلاءات عن الناس ثم مراجعة النفس والبحث عن الأسباب المؤدية إلى هذا الابتلاء، فلا يحلُّ بالمرء المسلم أمر كهذا إلا وكان هو سببه، مصداقا لقوله سبحانه تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».

وحين ترغب الأمة الاسلامية رغبة صادقة في التخلص من هذه الأزمة فإن عليها أن تبتعد عن كل ما من شأنه زيادة الأزمة وتأجيجها من أهمها الابتعاد عن الربا الذي يعد السبب الأساسي لهذه الأزمات، فمن يدخل في حرب مع الله عزجل فنتيجتها محسومة قبل التفكير بالدخول فيها فما بالك بدخولها وإظهارها والتبجح بها، فقد قال الله جل شأنه في كتابه العزيز: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ» كما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض أحاديثه المحذرة من الربا «ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنين».

الأمر الآخر الابتعاد عن الإسراف والتبذير والبذخ، فقد أهلك من كان قبلكم كفرهم بالنعمة والأخذ بمظاهر الأبهة وظهور الطبقات بين الناس بمقياس المال، وهذا الأمر فيه محق للبركة ونذير شؤم بنزول العقوبة من رب العزة وعلى رأسها ظهور الغلاء والقحط.

كذلك سبب آخر مؤذن بوقوع مثل هذه الأزمات بل هو سبب مهم فيها هو منع الزكاة فقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في معرض التحذير من عدة أمور، فقال من بينها: «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا».

ويتبع ما ذكرنا آنفا أيضا الصدقة ومساعدة الفقراء، كل هذه الأمور مدعاة للخروج من مثل هذه الأزمة، كما أننا في الوقت نفسه لا نغفل الأخذ بالأسباب بعد اللجوء إلى مسببها، فعلينا أن نقتصد في استهلاكنا ونأخذ بالنصح الذي قدمه النبي يوسف عليه السلام لأهل مصر للاستعداد لمثل هذه الأزمات، وأيضا هذه الأزمة مدعاة لأن نراجع أنفسنا وسياستنا الاقتصادية على المستوى العام والخاص، ولتكون لنا عبرة لعدم الوقوع فيها مرة أخرى ووضع الحلول الناجحة الناجعة التي تحمي المجتمع من مثل هذه الأزمات.