894754
894754
إشراقات

في استعمال كلمة «رب» دعوة رحمانية من الله للعباد كلهم للعودة إليه والدخول في حمايته وجواره

12 يناير 2017
12 يناير 2017

العوفي: الله تعالى أمر الموسوس له أن يستعيذ برب الناس -

عرض: سيف بن سالم الفضيلي -

أكد الشيخ إسماعيل بن ناصر العوفي في دروسه التي يلقيها في جامع الإمام نور الدين السالمي بالخوير «هدايات الرحمن.. وقفات مع آيات القرآن» في سورة الناس، أن الله تعالى أمر الموسوس له أن يستعيذ برب الناس (ربهم ومالكهم) لأن في ذلك طمأنينة له.

وأوضح أن طلب الطمأنينة وطلب زيادتها أمر يطلبه أهل الإيمان ويحتاج إليه أهل الإحسان ولو كانوا أنبياء؛ فيكون ذلك سببا لرفع المقامات وبلوغ العاليات من الدرجات فقد أخبر الله عن نبيه إبراهيم أنه طلب طمأنينة القلب، وربط ذلك بتجديد العوذ بالله وتعهده.

فعن مناسبة ذكر كلمة (رب) لا لفظ الجلالة (الله) يقول العوفي: وقد أمر الله الموسوس له أن يستعيذ برب الناس، ورب الناس مالكهم، وفي ذلك طمأنينة للموسوس له، فمالكه الله، ولا شك أن مالك الشيء يحميه، ويدافع عنه، ويحفظه، والمالك المذكور هنا هو الله الذي لا يستطيع دفع حمايته وحفظه أحد ولو كان من كان، وفي ذلك أيضا دعوة للموسوس إلى العودة إلى رشده وترك الوسوسة لمن يوسوس له؛ لأن الله مالك الموسوس، ومن حق المالك على المملوك أن يعظمه ويستجيب له، ولا يفعل إلا ما يرضيه.

رب الناس أعطاك ما تحتاج إليه

ويشير: ورب الناس مربيهم ومصلحهم، وفي ذلك طمأنينة للموسوس له؛ فمربيه الله، ومصلحه الله، ولا شك أن الذي رباه وأصلحه لن يضيعه، ولن يتركه؛ فالله أصلحه ورباه ليسعد لا ليشقى، ومربيه هو الذي أطعمه وسقاه في حالة ما كانت تسطيع أن تصل إليه يد إنسان، ولا يستطيع أن يتكلم ليخبر بما يحتاج إليه من طعام وشراب، بل كان يقع لمن تحمله في أحشائها حالة غريبة بهرت الأطباء، وجعلتهم في غاية الحيرة، وهي حالة (الوحام) التي تقع للحوامل، فتشتهي الحامل طعاما، قد لا يكون متوفرا في وقت الوحم، وقد لا يعرف كثير من الناس أن الجنين هو الذي يطلب المادة الذي يتكون منها ذلك الطعام الذي رغبت فيه الحامل من حيث الظاهر، وهو شيء يحتاج إليه الجنين حقيقة، فتطلبه الأم، وبيان ذلك أن الجنين قد يكون عنده نقص في (البوتاسيوم) أو (الحديد) أو غيرهما من المواد التي يحتاج إليها بدن الجنين؛ فيكون توفير تلك المادة بحصول رغبة في نفس الحامل إلى طعام موجودة فيه تلك المادة، فسبحان الله العظيم! فالذي ربى الجنين ورعاه في حالة لا تصل إليه فيها يد أحد من المخلوقين قادر على رعايته وحمايته من مخلوق ذي كيد ضعيف «الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا» النساء: ٧٦، ما كان داخل دائرة الحماية.

وفي ذلك أيضا تذكير للموسوس بفضل الله عليه، فالله هو الذي رباه وأصلحه، ومن حق من أصلح وربى على من أصلحه ورباه أن يقدره حق قدره، ويؤمن به ويتقيه.

دعوة من الله لعباده

وفي استعمال كلمة (رب) دعوة رحمانية من الله ـ عز وجل- للعباد كلهم للعودة إليه والدخول في حمايته وجواره؛ فما من أحد إلا وله تعلق بكلمة (رب)؛ لأن أنعم رب الناس وتهيئة ما يحتاج إليه المخلوقون شملت الجميع، فما من أحد إلا شملته نعم الله ورعايته ولو كان غير مؤمن بالله، فكأن الله يقول له: أقبل إلي تجدني أقبلك، وأدخلك في جواري وحمايتي بعد تصفية نفسك وردها إلى فطرتها السليمة «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» الروم: ٣٠.

مناسبة ذكر كلمة (الناس) لا كلمة (العالمين)

ويوضح: وقد ذكرت في هذه السورة الشريفة كلمة (الناس)، فقيل: (رب الناس)، ولم يقل (رب العالمين)؛ لأن المذكور هنا -وهو الوسوسة والعوذ منها بالله- أمر يتعلق بالناس لا بالعالمين كلهم، فكلمة العالمين تدخل فيها الملائكة إن قيل إن كلمة العالمين تدل على ذوي العلم وهم العقلاء، وتدخل فيها المخلوقات كلها إن قيل إن كلمة العالمين تدل على كل ما كان علامة على وجود الله، وهؤلاء لا يرادون كلهم في هذا المقام، بل المراد بنو آدم والجن الذين تجمعهم كلمة (الناس).

كلمة (الناس) تشمل الجن وبني آدم

وكلمة (الناس) تطلق على بني آدم، وعلى هذا تكون مأخوذة من (الأنس)، فالذين يحصل بينهم الأنس، ويأنس بعضهم ببعض هم بنو آدم، ولكن قد يكون هذا المعنى حاصلا بين الجن؛ فمن المحتمل أنه يأنس بعضهم ببعض، وعليه فكلمة (الناس) تشمل بني آدم والجن، وفي القرآن إشارات إلى شمول كلمة (الناس) لبني آدم والجن؛ فقد سماهم الله في القرآن نفرا، فقال: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا» الجن: ١، وسماهم رجالا، فقال: «وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا» الجن: ٦، كما يسمى بذلك بنو آدم، وهناك شواهد في شعر العرب تدل على أن كلمة (الناس) تشمل الثقلين الإنس والجن، ومن ذلك قول الشاعر:

أتوا ناري فقلت: منون أنتم

فقالوا: الجن، قلت: عموا ظلاما

فقلت: إلى الطعام، فقال منهم:

أناس نحسد الإنس الطعاما

فكلمة (أناس) في قول الشاعر يراد بها الجن، فأطلق عليهم كلمة (أناس).

ويبيّن العوفي أثر إضافة كلمة (رب) إلى كلمة (الناس) على نفس الموسوس والموسوس له: فعلى هذا تكون كلمة (الناس) شاملة للثقلين الإنس والجن؛ وبهذا يكون المعنى: أعوذ بمالك الإنس والجن، أو: أعوذ بمربي الإنس والجن ومصلحهم، وبذلك يرتفع الخوف من اللاجئ لجوءا حقيقيا إلى الله؛ لأن الله هو مالك المستعاذ منه ومربيه ومصلحه، سواء كان المستعاذ منه من الجن أو من بني آدم، وعدم الخوف لا يتحقق إلا لمن كان في دائرة الحماية، وهم الذين: «الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ» الأنعام: ٨٢.

وفي إضافة كلمة (رب) إلى كلمة (الناس) دعوة للمستعاذ منه لترك وسوسته؛ لتذكيره أن الله مالكه ومربيه ومصلحه، يفعل فيه ما يشاء ويحكم ما يريد، نعم، ربى المستعاذ منه وأصلحه الله؛ فقد أوجده من العدم، وخلق له الهواء والماء والغذاء، وأعطاه من كل شيء سأله بمقادير تحفظ له حياته ووجوده في هذا الكون: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» القمر: ٤٩.

ومع هذا اليقين يواصل الإنسان مسيره في طريق الخير غير ملتفت إلى وسوسة الموسوسين وتثبيط المغرضين؛ لعلمه أنه في حماية الله وجواره، ومن كان في حماية الله وجواره فلن يستطيع أحد أن يصل إليه ولو كان معه من معه من الناس، ومعه ما معه من القوة والكيد «يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» الصف: ٨، والاستمرار على هذا المنهاج والبقاء عليه وتجديد العوذ بالله وتعهده قد يصل بالإنسان إلى النفس المطمئنة التي تبلغ صاحبها أعلى الدرجات، وتوصله إلى أرفع المقامات «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي» الفجر: ٢٧ - ٣٠.

نوع الخوف الذي يرتفع بالعوذ بالله

والخوف الذي يرتفع بالعوذ بالله هو الخوف الذي يؤدي بالخائف إلى أن يعتقد أن المـخوف منه يضر أو ينفع؛ لأن هذا الخوف طعن في عقدة الإيمان بالله، فالله هو النافع، وهو الضار «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» يونس: ١٠٧، وأما الخوف الذي لا يبلغ بالإنسان هذا المبلغ فإنه شيء فطر الله عليه الناس، وقد حصل لأعظم الناس إيمانا وأرسخهم يقينا وهم المرسلون، فقد أوجس إبراهيم – عليه السلام – من ضيوفه خيفة عندما رأى أن أيديهم لا تصل إلى الطعام «فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ، فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ» الذاريات: ٢٧ – ٢٨ «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى» طه: ٦٧، عندما خيل إليه من سحرهم أن حبالهم وعصيهم تسعى.

مناسبة ذكر وصف ثان وهو «مَلِكِ النَّاسِ»

الناس ليسوا سواء في مقامات الإيمان، والطمأنينة مقامات، وليست مقاما واحدا، والموسوسون من الجن والإنس ليسوا سواء في التأثر بالتخويف لترك الوسوسة، ولذلك أتي بوصف ثان بعد الوصف الأول، وهو: «مَلِكِ النَّاسِ» الناس: ٢، وقد نصور المعنى في مثال يقربه إلى الأذهان، فنقول: المالك لا يلزم أن يكون ملكا؛ لأن الملك يحكم، والمالك لا يحكم؛ فالملك يجري أمره على المالك وما ملك، فالمالك للشيء يكون داخلا في حكم الملك، ولكن هذا المعنى فيما بين المخلوقين، وفي استعمال هذا الوصف الشريف «مَلِكِ النَّاسِ» زيادة تطمين لمن لم تحصل له الطمأنينة الكافية بذكر الوصف الأول (رب الناس)، أو لمن يطلب مقاما عاليا ودرجة رفيعة من الطمأنينة.

طلب الطمأنينة وطلب زيادتها يحتاج إليه أهل الإيمان حتى الأنبياء

وطلب الطمأنينة وطلب زيادتها أمر يطلبه أهل الإيمان، ويحتاج إليه أهل الإحسان، ولو كانوا أنبياء؛ فيكون ذلك سببا لرفع المقامات، وبلوغ العاليات من الدرجات؛ فقد أخبر الله عن نبيه إبراهيم أنه طلب طمأنينة القلب، فقال: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» البقرة: ٢٦٠، وقد أخبر الله عن الحواريين أتباع عيسى أنهم طلبوا الطمأنينة لقلوبهم، فقال: «إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ» المائدة: ١١٢ – ١١٣.

من أسرار ذكر وصف «مَلِكِ النَّاسِ»

وفي ذكر الوصف الثاني إشارة إلى أن الذي أستعيذ به ملك ومالك، ففي استعمال الوصف الثاني «مَلِكِ النَّاسِ» زيادة تخويف وردع للموسوس الذي لا يخاف الخوف الكافي، ولا يرتدع الارتداع التام بذكر الوصف الأول (رب الناس)، فـ (رب الناس) وصف قد يحمل المكلف على الاغترار برحمة الله اغترارا يجره إلى عدم المبالاة بأمر الله ونهيه؛ لأن كلمة (رب) تدل على التربية التي تستلزم الإحسان والرحمة وتوفير ما يحتاج إليه المخلوق؛ فأتي بهذا الوصف «مَلِكِ النَّاسِ» الذي يرفع هذا الغرور عن نفس المكلف التي يلحقها هذا النوع من الغرور والعياذ بالله؛ لأن الملك من شأنه أنه يعاقب على ترك الواجبات وإتيان المنهيات، ويثيب على فعل الواجبات وترك المنهيات.

سر ذكر كلمة الناس مرة ثانية

وقد قيل «مَلِكِ النَّاسِ» ولم يقل: (ملكهم)؛ فاستعمل الاسم الظاهر (الناس)، ولم يستعمل الضمير، فما الغرض من ذلك؟ قد يكون في ذلك نوع من التأكيد على ضعف كيد الموسوس؛ لأن الموسوس لا يعدو أن يكون من الناس سواء كان من الجن أو من بني آدم، والله تعالى ملك الناس كلهم، فالموسوس ليس خارجا عن ملك الله ـ جل جلاله- وفي ذكر الاسم الظاهر (الناس) تطمين للموسوس له، فالموسوس من الناس فهو داخل في ملك الله وقهره وسلطانه؛ فلا داعي للخوف منه خوفا يجعل الموسوس له يعتقد أن الموسوس يضر أو ينفع، وفي ذلك تخويف وردع للموسوس، فقد تنزل عليه عقوبة الله ويقع في سخطه إن لم يترك الشر؛ لأنه من الناس الذي يملكهم الله.