893103
893103
شرفات

بعبارة أخرى .. العرب والغرب - العلاقة الملتبسة

09 يناير 2017
09 يناير 2017

د. حسن مدن -

في كلمة نجيب محفوظ في حفل تسليمه جائزة نوبل، التي ألقيت بالنيابة عنه، قال التالي: «أخبرني مندوب جريدة أجنبية في القاهرة بأنه في لحظة إعلان اسمي فائزاً بالجائزة ساد الصمت وتساءل الكثيرون عمن أكون، فاسمحوا لي أن أقدم نفسي».

الحق أن محفوظ لم يكن بحاجة لتقديم نفسه، فأدبه قدمه للإنسانية، والجائزة أتت إليه لأنه استحق العالمية قبل نيلها، لسبب في غاية البساطة والأهمية في آن هو أصالة محليته، الروح المصرية المتجذرة في رواياته وقصصه. لا يصبح الكاتب عالمياً إلا حين يكون محلياً، ابن بيئته وشعبه ووطنه، وهذا ما كانه أدب نجيب محفوظ، وأتينا عليه في مقالٍ سابق عنه نشر هنا.

لكننا نحسب أن مفتتح نجيب محفوظ هذا، أريد به لوم الغرب الذي لا يعرف إلا نفسه، ويستمر في النظر إلى الثقافات والآداب الأخرى باستعلاء المتفوق، متجاهلاً أن الإبداع الإنساني عابر للقارات وللاعتبارات السياسية.

مثلاً، في الغرب شعراء كبار ولا شك، ولكن الهند البعيدة قدمت شاعراً عظيماً مثل طاغور، وأمريكا اللاتينية الفقيرة، المهمشة، الخاضعة لهيمنة الشمال الأمريكي وضواري الرأسمال العالمي قدمت قامات كبرى بوزن بابلو نيرودا وجابرييل ماركيز، ولولا اللغة الإسبانية التي كتبوا بها، ما كان الغرب سيعرفهم، كون الإسبانية لغة أوروبية، لا بل أنها لغة الغزاة الآتين من القارة العجوز إلى العالم الأمريكي «الجديد».

لم تكن كلمة الغرب تعجب إدوارد سعيد، فهو يرى أن هناك خطراً في استخدامها، والأرجح أن موقفه هذا آتٍ من رفضه للتعميم، لأن مقولة الغرب هكذا على إطلاقها تضع كل ما في العالم الغربي في سلة واحدة، وتحجب التناقضات داخله، فالغرب، شأنه في ذلك شأن المجتمعات والتجمعات والكتل والظواهر الأخرى، يحمل في طياته أوجه تناقض وحتى صراع بين مكوناته.

الكلمة التي يفضلها إدوارد سعيد بديلاً عن كلمة الغرب هي مفردة: «أطلسي»، وهو ربما استوحاها من مصطلح طومسيون: «العالم الأطلسي»، وهو بذا يريد التفريق بين الدلالة الجغرافية للغرب من حيث هو مكان، وبين الدلالة الإيديولوجية لهذا الغرب الذي يريد الماسكون بالأمور فيه تحويله إلى قوة آمرة ناهية، مُوجِهة لمَن هم خارجه، على مجرى ما فعلته الإمبراطوريات الاستعمارية الكلاسيكية التي تآكلت كالفرنسية والبريطانية أو ما تفعله الولايات المتحدة اليوم.

في اللغة العربية فإن «الغرب» هو كيان جغرافي. فهذه اللفظة لا تدل على موقع أو مكانٍ بعينه، سوى أنه المكان الذي تغرب فيه الشمس، ولأن الأرض تدور فإنه يتبدل معها . بيد أن ثمة من يرى أن الغرب، لغةً، هو عند العرب مكان الظلمات والمجهول، فحيث تغيب الشمس تنتظرك الظلمات. والغرب، إلى ذلك، هو أرض الأجنبي، ومنه اشتقت صفة الغريب. ويقال إن تسمية أحد الطيور بالغراب مشتقة، لغة، من هذه اللفظة، ويحمل دلالتها لأن هذا الطير يحمل سوء الطالع ويبعث على التشاؤم.

لكن كاتباً أجنبياً يرى أن الغرب، في الجغرافيا السياسية المعاصرة، يعني العالم الغربي الذي هو عبارة عن مثلث تحيط أضلاعه بنصف الكرة الأرضية الشمالية حيث أوروبا الغربية واليابان والولايات المتحدة. وفي بعض الأدبيات العربية يقصد بالغرب أوروبا وأمريكا، وهذا يبدو أقرب إلى الدقة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الوضع الخاص لليابان.

عودة للعلاقة الملتبسة بيننا وبين الغرب، سنرى أنها مثقلة بمرارات التاريخ الاستعماري الطويل، والإعاقة الغربية الدائمة لأي مسعى نهضوي عربي، لقد حصل هذا مع مشروع محمد علي باشا ومع المشروع الناصري، وارتدادات هذه الإعاقة واضحة فيما يجري اليوم من تبنٍ أو دعم لما عُرف بـ«الفوضى الخلاقة» التي لا تعني سوى الزج بهذه المنطقة في أتون صراعات مذهبية وحروب أهلية مدمرة لن يكون فيها منتصر.

يتعين القول إن ما بين أوروبا والعالم العربي من وشائج ثقافية يختلف عن تلك التي بينه وبين الولايات المتحدة. فحضارة اليونان مُصنفة بأنها أوروبية، لكن أوروبا تعرفت عليها وهي أكثر ثراء وغنى بمساهمات الفلاسفة العرب ومن خلالهم.

سجل أوروبا عندنا ليس ساطعاً. يكفي التاريخ الاستعماري الطويل لدول أوروبية مهمة في المنطقة، لكن وبعيداً عن أية أوهام فإن الحوار العربي - الأوروبي حاجة ماسة وملحة للعرب وللأوروبيين على حدٍ سواء، أولاً لتجاوز حالة التحكم في إدارة العالم من مركز واحدٍ، وثانياً للمساحة الواسعة من المصالح المشتركة بيننا وبينهم، وثالثاً، لتأكيد قيم التجاور الثقافي بديلاً لمسعى الهيمنة الأمريكي.

وللإنصاف علينا ملاحظة أن بواعث من اشتغلوا على مقولة الاستشراق من مفكرينا العرب مثل أنور عبدالملك وعبدالله العروي وإدوارد سعيد نفسه لم تكن بواعث عدائية أو انتقامية من هذا الغرب ومستشرقيه، بقدر ما انطلقت من الرغبة في إعمال الفهم النقدي، بالنظر إلى الحضارة الإنسانية نظرة كلية، منطلقها التكافؤ ورفض صور الاستعلاء أو الازدراء على حد سواء.

ولو أقمنا مقارنة بين طريقة تعاطي رواد فكر النهضة العرب والمسلمين مع الغرب، وبين طريقة تعاطي التيارات والاتجاهات المحافظة في عالمنا العربي اليوم والداعية لرفض الغرب كلية، لأدركنا الفارق الكبير بين الموقفين.

فالإصلاحيون من مفكري الإسلام في القرن التاسع عشر حاوروا الغرب، ودعوا إلى اقتباس ما رأوه صالحا من تنظيماته، وكان تحديث مجتمعاتهم قضية كبرى بالنسبة لهم لا تقل أبدا عن دعوتهم للتمسك بـ«الهوية العربية الإسلامية»، فيما تذهب بعض اتجاهات اليوم لمعاداة الغرب وحضارته في المطلق، ونظرا للحضور الطاغي لهذا الغرب في حياتنا جميعا، بما في ذلك في حياة الداعين إلى نبذه بصفته شرا مستطيرا، فإن الدعوة لإلغائه تظل عند حدود الخيال أو الرغبة المستحيلة غير الممكنة، فضلاً عما توقعه من تناقض في خطاب وفي سلوك أصحابها غير القادرين على التحرر، حتى لو أرادوا، من هيمنة هذا الغرب على نمط الحياة السائدة في بلداننا في الكثير من أوجهها.

لكن الحديث لا يدور عن هذه الأصولية المحافظة التي ترفض الغرب في المطلق وحدها، وإنما عن أصولية أخرى، ليبرالية الطابع هذه المرة، تلتقي من حيث أرادت أم لم ترد في جوهر الموقف مع الأمر أعلاه في نفيها لفكرة الحوار الثقافي والحضاري.

فمن يعرفون اليوم ب «الليبراليين الجدد»، ومن يمثلونهم في العالم العربي، كما يذهب إلى ذلك المفكر المغربي علي اومليل يرون أن الحداثة أمران لا ثالث لهما: اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية، وإنهما قد بنيتا على قيم ومبادئ ثقافية لا توجد في غير ثقافة الغرب.

ألا أن المعضلة الكبرى ليست هنا، وإنما في رفض هذه الليبرالية الجديدة لفكرة التضامن وازدراءها لمفهوم العدالة الاجتماعية، التي تبدو بالنسبة لهم موروثاً فقد شرعيته لأنها تنتسب إلى عصر الإيديولوجيات والقيم المثالية التي لم يعد لها مكان في عالم اليوم القائم على اقتصاد السوق، وعلى حرية المبادرة الفردية التي يعرف الأذكياء والنشطون استغلالها.

فكرة العدالة الاجتماعية، كما يقيم اومليل عن صواب، ضرورة ليس من زاوية البر والإحسان وحدهما، وإنما لأنها ضرورة سياسية في عالم اليوم الذي بلغ مستوى غير مسبوق من التمايزات والتفاوتات بين الأفراد، داخل كل مجتمع وبين الدول بعضها بعضا على الصعيد العالمي .

ولو أردنا مقاربة الموضوع خليجياً، لوجدنا أن صورة الخليج في أذهان الغربيين يمكن إيجازها في التالي: النفط، الثراء الكبير. ويمكن للبعض أن يضيف، انسجاما مع خطاب الإعلام، كلمة الإرهاب. فتلك هي الصورة النمطية التي تكرست في أذهان الآخرين عنا، إلى الدرجة التي تجعل هؤلاء لا يرون فينا سوى هذه الأمور الثلاثة: النفط والمال الوفير وأخيرا الإرهاب.

أسباب هذه الصورة عنا عديدة ومتشابكة. لكن لا يجوز أن ننفي أن هناك من يتعمد تصدير وتكريس هذه الصورة في أذهان الرأي العام في العالم عنا، وهناك ماكينة إعلامية ودعائية نشطة تبرع في ذلك، ويتخطى نطاق تأثيرها التلفزيون والصحافة، ليخترق وسيلة تأثير جماهيرية كبرى مثل السينما.