untitled-2
untitled-2
شرفات

دفاع عن طه حسين في مرحلة المراجعة الفكرية

09 يناير 2017
09 يناير 2017

محمد عمارة.. مفكر الوسطية الحديثة «4» -

عبد الله العليان -

هاجم الكثيرون ما كتبه عميد الأدب العربي د/‏‏ طه حسين، في كتابيه (مستقبل الثقافة في مصر)، و(في الشعر الجاهلي)، ففي الكتاب الأول، طلب د/‏‏ طه أن نحذو حذو الغرب في سيرته الفكرية والثقافية والحضارية، وهو الذي كان مبهوراً بالغرب، بعد سفره الى فرنسا، للدراسات العليا،ومما قاله في هذا الكتاب: «أن سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي واحدة فذة ليس فيها تعدد، وهى:أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحب منها وما يُكره، ما يُحمد منها وما يُعاب». وواجه طه حسين نقداً شديداً بسبب ما قاله في هذا الكتاب، واعتبره البعض هزيمة فكرية لشيخ أزهري بسبب اتباع منهج المستشرقين، في فترة دراسته في باريس. وفي كتابه في (الشعر الجاهلي)، ثم كتابه (في الأدب الجاهلي) طبق د/‏‏ طه حسين منهج الشك الديكارتي على الشعر والأدب الجاهلي، وعلى بعض آيات القرآن الكريم، في 19 أكتوبر سنة 1926م «بدأ رئيس نيابة مصر محمد نور الدين التحقيق مع الدكتور طه حسين في البلاغات التي تقدم بها طلاب الأزهر وعلماؤه وشيخه الأكبر، ضد ما جاء بالكتاب، وانتهى قرار النيابة لحفظ الأوراق إداريا لأن القصد الجنائي غير متوفر». وفي كتابه الجديد (طه حسين من الانبهار بالغرب الى الانتصار للإسلام)، دفاع د/‏‏ محمد عمارة عن طه حسين، بسبب بعض الذين اتهموه باتباع المنهج الغرب في بعض مؤلفاته، ومما سماهم د/‏‏ عمارة الدراويش الذين لا يتورعون عن وصف طه حسين بأنه لم يتغير عن منهجه في الشكر وقضية الانتحال في كتاب (في الشعر الجاهلي)، وكذلك ناقديه الذين يهاجمونه بناء على رؤيته الأولى، وقد قسم د/‏‏ عمارة مراحل تطور فكر طه حسين إلى أربع مراحل: المرحلة الأولى: هي بداياته الفكرية (1908-1914) قبل سفره إلى فرنسا عام 1914م، لنيل درجة الدكتوراه من جامعة السوربون ـ وهي التي يسميها عمارة (مرحلة الشيخ طه حسين)...المرحلة الثانية: هي المرحلة التي عاد فيها من فرنسا مبهوراً بالغرب الإغريقي والروماني..المرحلة الثالثة: تلك التي امتدت من بدايات الثلاثينيات وحتى قيام ثورة يوليو سنة 1952..وفيها كان التطور الفكري المتطور المتدرج والبطيء لطه حسين، عبر العديد من المنعطفات والمتناقضات..المرحلة الرابعة:هي مرحلة كما سماها د/‏‏ محمد عمارة،(مرحلة الإياب الفكري لطه حسين)، وهو الإياب الصريح والحاسم الى أحضان العروبة والإسلام.. وهي المرحلة التي بدأت بارتباط الوثيق بثورة يوليو ومعاركها الوطنية ضد الاستعمار الغربي.. وفي سبيل الهوية العربية والقومية العربية..وفيها أفصح طه حسين عن إيابه الفكري الى الإسلام الدين.. وعن قناعته الحضارية بأن العرب والعروبة هما مادة الإسلام.

يقول محمد عمارة في مقدمة هذا الكتاب:» كثيرون هم الكُتَّاب والمفكِّرون الذين أثاروا الجدلَ حول ما قدَّموا من أفكار، لكن طه حسين كاد ينفرد بأنَّ كل حياته الفكريَّة - التي جاوزت نِصف قرن - قد كانت بكاملها معركةً فكريَّة شديدةً وعنيفة حول ما قدَّمه الرجل من أفكار وآراء! بل إنَّ الكثيرَ من أفكاره وآرائه لا تزالُ مثيرةً للجَدَل، حتى بعد انتقاله الى مولاه!ولقد كتبت حول طه حسين- الأديب والناقد والمربي والمفكر- عشرات الكتب والآف الدراسات والمقالات.. ولكن.. ورغم كثرة هذه الدراسات، ظلت هناك ظاهرة غريبة- وربما فريدة- في هذه الدراسات.

فالكثرة الكاثرة، كما يرى د/‏‏ عمارة، الذين من الذين تعصبوا لآراء طه حسين، وقدموا أنفسهم باعتبارهم تلاميذه الأوفياء قد وقفوا عند أفكاره التي مثلت مرحلة انبهاره بالنموذج الحضاري الغربي، وتبشيره بهذا النموذج الحضاري، وسعيه لإلحاق العقل الشرقي بالعقل الغربي.. فلا تجدوا أحدًا من هؤلاء «المريدين» إلا ويتغنى بما كتبه طه حسين في هذه المرحلة من مراحل فكره، وخاصة كتابه [في الشعر الجاهلي] سنة 1926 – الذي مثل قمة مجازفاته الفكرية وعدوانه على عدد من عقائد ومقدسات الإسلام. وكذلك كتابه [مستقبل الثقافة في مصر] سنة 1938، الذي مثل قمة محاولاته إلحاق الشرق الإسلامي بالنموذج الحضاري الغربي، وإلزام أُمتنا أن تسير سيرة الغرب العلماني في الإدارة والحكم والتشريع، وأن تتقبل هذا النموذج الحضاري الغربي كله، حلوه ومره، خيره وشره، ما يُحب منه وما يُكره، ما يُحمد منه وما يُعاب!حتى لقد عميتْ أبصارهم وحُجبت بصائرهم وعقولهم عن التطورات الفكرية التي طرأت على فكر الرجل وآرائه وإبداعاته، والتي باعدت بينه وبين أفكار هذا الانبهار! فإن الأكثر في الغرابة والعجب أن يكون هذا هو ذات الموقف الذي اتخذه من طه حسين أشد خصومه وأكبر ناقديه! فلقد وقفوا –هم أيضًا- عند أفكاره التي قدمها إبان مرحلة انبهاره بالنموذج الحضاري الغربي، وركزوا جل هجماتهم على ذات الكتب التي تعلق بها «مريدوه»، وفي المقدمة منها كتاب [في الشعر الجاهلي] وكتاب [مستقبل الثقافة في مصر] ، حتى لقد أخرجوا الرجل من الملة الدينية والملة الحضارية، بعد رحيله عن عالمنا، دون أن يبصروا التطور الفكري الذي تجسد في إبداعات فكرية ناقضت مناقضة شديدة وحادة ما قدمه الرجل في مرحلة الانبهار»(18،17).

وعلى درب التطور الفكري- الذي بلغ حد الانقلاب الكامل- أعلن طه حسين انحيازه إلى عروبة مصر وإلى القومية العربية، التي صاغها الإسلام منذ أن ظهر الإسلام.. معتبراً رسول الله ] الأب الحقيقي للقومية العربية، أعلن طه حسين ذلك، بعد أن كان في الثلاثينات متمرساً في خندق الفرعونية- فرعونية مصر والمصريين، ورافضاً العروبة القومية والوحدة العربية.. وحتى الاتحاد العربي!.

فبعد أن كتب- في مجلة [الهلال]- عدد أبريل 1931م- يقول:

((إن مصر اليوم هي مصر بالأمس، أي مصر الفراعنة، والمصري فرعوني، قبل أن يكون عربياً، فلا تطلبوا من مصر أن تغير فرعونيتها. وإن مصر لن تدخل في وحدة عربية، حتى ولا اتحاد عربي.. وهي ليست مستعدة للمساهمة في الوحدة العربية أو القومية العربية ومع أن الدين العربي واللغة العربية مقومان أساسيان للحياة المصرية الحديثة- فإن الدين لا يصلح أن يتخذ أساساً للوحدة)).

بعد أن كان هذا هو رأي طه حسين بالأمس..غير هذا الرأي،بل انقلب عليه..فكتب في مجلة [الهلال] - التي سبق وكتب فيها عن الفرعونية! - عدد يناير 1959م- عن أن اللغة العربية، والدين الإسلامي، ورسول هذا الدين ] هم أركان العروبة والقومية العربية، وإن الإسلام هو المكون الحقيقي والأول لهذه القومية وهذه الوحدة، بفروعها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية واللغوية والقانونية وأن القرآن هو قانون هذه القومية والوحدة ففي مقالة تحت عنوان ((قوميتنا العربية بين الماضي والحاضر والمستقبل)) كتب يقول: إن أول توحيد للعقل العربي إنما جاء من ناحية اللغة، هذا اللسان الذي أتاح للغة العربية في العصر الجاهلي أن تكون لغة اجتماعية، وأن تكون لغة تستطيع القبائل ـ على تباعدها واختلافها وخصوماتها - أن يفهم بعضها البعض، وأن يشعر بعضها بما يشعر به بعضها الآخر .فالمكون الأول في المحاولة لإيجاد وحدة لهذه القبائل العربية إنما هو الأدب، والشعر من الأدب بنوع خاص، لأنه هو الذي سبق إلى الوجود، ولم توجد أخوّة النثر إلا بعد عصور تطاولت كثيراً. والقومية العربية- إذا أردنا أن نعرف متى تكونت بالمعنى الدقيق لكلمة القومية- فينبغي أن نرد هذا إلى ظهور الإسلام(146،145). وقبل ذلك، وفي عام 1933 بمجلة الهلال المصرية، وبصورة امتدح د/‏‏ طه حسين، الحركة الوهابية التي تنسب للشيخ/‏‏ محمد بن عبدا لوهاب في نجد بالمملكة العربية السعودية،أما الرحلة الحجازية وزيارة ومكة والمدينة، كما يرى د/‏‏ محمد عمارة في هذا الكتاب، فهي المراجعة، الأكثر وضوحاً لطه حسين، من انتصاره للإسلام، والإياب الروحي، في أحضان الإسلام، وقد أثمرت هذه الرحلة الحجازية كتاب (مرآة الإسلام) الذي صدر 1958 تجسيدا للإياب العقلي والفكري، والتي طرح فيها رؤيته الفكرية الجديدة، «وأن الإسلام أقام أمة سياسية، مصدر السياسة فيها هو الإسلام.. كما أقام دولة؛ قانونها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة» وعندما سئل عن أحب مؤلفاته إليه فقال «لا أحب منها شيئا»، وعن بيت الشعر الذي يردده قال « الشيء الذي لا شك فيه أنني أكثر ما أتلوه بيني وبين نفسي آيات من القرآن الكريم وأنا أكثر ترديدا للقرآن من الشعر». وفي خطابه بمؤتمر اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية بجدة معلنا أن «الإسلام وطن بل هو الوطن المقدس والصانع الأول للمسلم عبر الزمان والمكان». وبعد عودته من الرحالة الحجازية، أجرت معه مجلة آخر ساعة المصرية من خلال الصحافي كامل الشناوي، في 16 فبراير».

نعم كما يرى د/‏‏ محمد عمارة ..لقد مثلت هذه الرحلة الحجازية « الفتوحات الربانية « بالنسبة لتطور طه حسين على درب الإياب للإسلام ..كانت ميلادا جديدا ..وانقلابا كاملا لطه حسين. فبعد مخاض طويل وعسير.. امتد أكثر من عشرين عاما،وشهد تطورا فكريا بطيئا ومتعرجا لفكر طه حسين في اتجاه الخروج من عباءة الانبهار بالنموذج الحضاري الغربي، والاقتراب من النموذج الحضاري الإسلامي .. جاءت الرحلة الحجازية لطه حسين- في جمادي الثانية 1374 هـ يناير 1955م لتطوي صفحة هذا المخاض الطويل والعسير، والمليء بالمتناقضات، ولتمثل هذه الرحلة ميلادا جديدا لطه حسين الجديد الذي عاد بعقله وقلبه وكل مشاعره وسائر كيانه إلى أحضان الإسلام، رافعا رايات الانتصار للإسلام: الدين.. والقيم .. والحضارة.. والتاريخ (151، 152). لقد مات طه حسين رحمه الله وخلف54 كتاباً، الى جانب الكثير من المقالات الصحفية جمعت في ستة مجلدات طبعتها دار الكتب، والوثائق المصرية، ومجلد ضخك عن الوثائق السرية لطه حسين،ومِن الجدير بالذكر أنَّ طه حسين أوصى أن يُحفَر على القبر الذي دُفن فيه هذا الدُّعاءُ النبويُّ - الذي كان أثيرًا إلى قلبه، قريبًا من لسانه -:

((اللهمَّ لك الحمد، أنت نور السَّموات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمد، أنت قيُّوم السموات والأرض، ولك الحمد، أنت ربُّ السموات والأرض ومن فيهنَّ، أنت الحقُّ، ووعدك الحقُّ، والجَنَّة حقٌّ، والنار حقٌّ، والساعة حقٌّ، والنبيُّون حقٌّ، اللهمَّ لك أسلمتُ، وعليك توكلتُ، وبك آمنتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي لا إله إلَّا أنتَ»..رحم الله طه حسين رحمة واسعة.