892223
892223
شرفات

هذا هو اسمي *

09 يناير 2017
09 يناير 2017

892221

خالد عبدالهادي -

من هو الأستاذ هيكل ؟

شخصية آسرة، ووجه ممتلئ بالحياء، تبدو في وجهه ورقبته تجاعيد وغضون جديدة عن آخر مرة التقيته، وكان الشعر الأبيض منتشرا في كل رأسه، وبالرغم من تقدم عمره إلا أنه يجهر بالشباب والأناة والعقل.

أثر على قطاع كبير من الجماهير، فبإمكانه استمالة أي إنسان، وبات من العادة وحسن التصرف أن يطالع المرء مقالات وكتب وأحاديث الأستاذ هيكل !

مولع بالموسيقى والفن، مثقف، يتقن الإنجليزية ويتكلم الفرنسية، يقلب الصحف ويطالع المجلات الفرنسية والإنجليزية والأمريكية، ذلق اللسان، مارس التمارين السويدية والسباحة والتنس، قبل أن يجذبه الجولف لعالمه!

عيناه قريبتان من بعضهما ويطل منهما الأمان والأناة، ويرسلان إشارات الفطنة وعلامات الدهاء. كون عائلة ممتلئة بالإخلاص والإعزاز على أبدع ما يكون. يعرف من تاريخ إنجلترا خاصة وأوروبا عامة أكثر مما يعرفه معظم مثقفي القارة العجوز!

متوقد مترع بالقوة، تجري عاصفة من الكلمات وهو يوشك على فغر فاهه. يرد «بصراحة» عن جزء من استفساراتك ذات المضمون السياسي، والباقي يتركه للزمان والمكان المناسبين له وفق أجندته. وبما أنه مشهور بحديثه الصريح فقد استحضر لنفسه جزءا من الأصدقاء يقابله جزء من الأعداء. ومن المؤكد أنه أريب وأخاذ، راسم سياسات لامع مدركا لأحوال العالم، بديع الصورة بوجهه المستدير الزاخر، وأليق الناس بمنصب وزير الخارجية لإدراكه القوانين السياسية والغريزة الإنسانية!

وكثيرا ما أغرتني عوالم الأستاذ هيكل، فهو متنوع القدرات: الصحفي اللامع والكاتب المميز والمثقف المرموق والسياسي الملتزم والعالم الاستراتيجي المبدع. اجتهد هو وأبناء جيله لدواعي الاستقلال المصري والعربي في مواجهة جموح القوى الغربية وعنادها، تجشموا الأسى، ولم يدهمهم القنوط، على الرغم من المخاطر الكثيرة التي تصدوا لها - فإن قصدهم لم يتباطأ وإقدامهم لم يعتريه الوهن.

ظاهر الرشاقة رياضي الهيئة، رغم أنه أطل على التسعين، يستيقظ ما بين الخامسة والسادسة صباحا، متسللا إلى مكتبه لمعرفة آخر الأخبار على أجهزة التيكرز، مطالعا الصحف المصرية على ضوء السيارة التي تقله إلى نادي القطامية ليمارس رياضته المفضلة: الجولف. متواجدا في مكتبه في تمام الساعة الثامنة والنصف، متناولا قدحا من الشاي (إيرل جراي Earl Grey)، مستعرضا جدول مواعيده..

أسهم بجد في أحداث المنطقة خلال حقبة معينة من التاريخ . واستمر يكلمني ببشاشة مستعرضا شتى القضايا برؤية مدهشة ، ذكرته بالكلمة المأثورة عن جورج كليمنصو Georges Clémenceau رئيس وزراء فرنسا في الحرب العالمية الأولى حين قال بأسلوبه اللاذع: «إن الحرب مسألة أخطر من أن نتركها للجنرالات» !

ولم أفرغ ، حتى بادرني بقوله : «وأخطر من أن نتركها في أيدي الساسة، هل طالعت الكتاب الأخير عن مجريات ووقائع ما جرى في كامب ديفيد (ثلاثة عشر يوما في سبتمبر) وهو للورانس رايت Lawrence Wright ، كانت في يد الرئيس السادات 12 ورقة رابحة ، لكنه آثر المشي نحو السراب ؟!

(عد الأستاذ هيكل على أصابعه الأوراق الرابحة التي كانت بحوزة السادات :

1 - التعزيزات العسكرية القادمة من الاتحاد السوفييتي بعد وقف إطلاق النار يوم الاثنين 22 أكتوبر .

2 - طول الخطوط الإسرائيلية من سعسع (الجبهة السورية) إلى السخنة (الجبهة المصرية) .

3 - الاقتصاد الإسرائيلي معطل مع استمرار التعبئة العامة .

4 - الخلافات الداخلية في إسرائيل متفجرة بين العسكريين والمدنيين ، وبين العسكر فيما بينهم، والمدنيين وبعضهم.

5 - العالم العربي مستنفر خلف سوريا ومصر.

6 - سلاح البترول دخل مساندا.

7 - تنبه الاتحاد السوفييتي لتغير موازين القوى في الشرق الأوسط ، مع عدم حرصه على سياسة الوفاق.

8 - الأسرى الإسرائيليون ومن ضمنهم 36 طيارا .

9 - حصار باب المندب .

10 - شرعية دولية مؤيدة للقرار رقم 338 (الرجوع إلى خطوط يوم 22 أكتوبر) ، مع إرادة أوروبية نشطة للعب دور .

11 - فتح قناة السويس .

12 - عودة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة) .

وأعرب الأستاذ هيكل عن امتعاضه العام من طريقة العرب في لعبة السياسة (وكافة شؤون حياتهم):

«نحن نلعب الطاولة - النرد - والإسرائيليون يلعبون الشطرنج .

لعبة الطاولة تحتاج إلى براعة، ولكنها في الأساس تعتمد على ضربة حظ يتمناها اللاعب وقد تقع له أو لا تقع .

ولعبة الشطرنج مسألة أخرى تماما، أساسها قانون للعبة، وحساب، ثم حركة .

في تصرفاتنا باستمرار، انتظار واعتماد على ذلك المجهول الغامض، ضربة الحظ التي تقع أو لا تقع، وبعدها نسعد أو نحزن ... يتوقف الأمر على مهارة اللاعب أو خيبته... على يمن طالعه أو نحس ذلك الطالع .

وفي تصرفات الإسرائيليين باستمرار لا يوجد شيء من ذلك ..

الشيء الوحيد الموجود هو قانون اللعبة، والحساب، والحركة.

لن نهزمهم إذا استمرت لعبتنا السياسية أمامهم: طاولة.

وقد نهزمهم إذا تحولت لعبتنا السياسية أمامهم إلى: شطرنج.

ولعلنا لا ننسى أنه برغم كل التطورات في علوم الحرب ، فإن الشطرنج هو السلف الصالح للاستراتيجية العصرية» .

حكيم ، نصف وزنه ثقة بالنفس ، يتكلم بطلاقة وبصراحة ، متمتعا بروح فكاهية باهرة ، محذرا طول الوقت بأن ما يقوله ليس للنشر ، هو للعلم !

يشمئز من المناصب الرسمية ، ويألف النفوذ . يفزع من العنف وينقبض من التجسس .

ناصري لم يرض عنه غلاة الناصريين، عروبي جذب انتباه القوميين العرب. علاقته بالغرب رغم إيمانه بالمبادئ الاشتراكية في أحسن حال .

لم يكن الأستاذ هيكل رجلا قدريا ، متعجب مما جرى لبعض المفكرين المصريين والعرب الذين بدأوا بمناهج الشك (ديكارت وغيره) بحثا عن الطبيعة والإنسان والتطور ثم وصلوا دون مقدمات واضحة إلى غير ما بدأوا به ، فإذا هو الغيب والوحي والقدر !

ومن المعروف عن الأستاذ هيكل أنه في الجانب المتشبث (لم أقل المتشدد) فيما يخص إسرائيل والصراع معها ، وقد وصفه الدكتور بطرس غالي في يومياته: «وعلى العشاء قابلت محمد حسنين هيكل الذي كان موضع ثقة عبد الناصر ومستشاره . وكنت بتشجيع منه قد أصدرت مجلة ربع سنوية متخصصة للدبلوماسية تحت اسم مجلة «السياسة الدولية» ، وهي لا تزال أهم دورية في هذا الموضوع في العالم العربي . ولم أكن قد رأيت هيكل منذ أن توليت منصبي الوزاري . وكان - كعادته - عصبيا وطموحا وذكيا وذا دهاء صحفي عظيم . وقال لي بقلق كبير : «رويدا رويدا ! لابد أن تفرمل السادات . فليس هناك ضرورة على الإطلاق لإجراء التطبيع مع إسرائيل بمثل هذه الخطوات السريعة» . وهيكل أحد المفكرين المصريين الراديكاليين الذين لا يستطيعون فكريا قبول فكرة الحوار مع إسرائيل».

كان دائم الترديد: «لدي تفاؤل تاريخي وتشاؤم سياسي» ، وهي دلالة على التفاؤل الثوري عبر الإرادة ، واستعادتها لا تتم إلا بوسائل العقل، كما أن الوعي لا يستعاد إلا بوسائط المعرفة.

قابلته في مقر عمله بالجيزة (مرتين في المساء ، والباقي في جلسات صباحية)، وعندما ولجت لمكتبه قام مقتربا مني ببسمة جميلة وتشابكت أكفنا، مما أشاع دفء من اللحظة الأولى ، كان مكتسيا بدلة كحلية جميلة، وقد بدت بشرته أسمر قليلا من الصور ، وغاية في الحنو . جلست على كرسي الاعتراف المقابل له ، يفصل بيننا المكتب، أو في الشرفة الملحقة بالمكتب، متناولا القهوة التركية أو عصير البرتقال، بينما يباشر هو بتدخين سيجارة . كانت الخرائط الجغرافية لمصر والمنطقة تغطي الواجهة الخلفية للمكتب ، بينما تمثال ضخم للكاتب المصري الفرعوني بجانبه . فيما البهو المؤدي للمكتب تملؤه صور كثيرة له مع عمالقة عصره: ناصر، خروشوف ، همرشولد ، كينيدي ، تيتو ، نهرو ، تشو ان لاي ، وغيرهم.

سألته عن أعظم من قابل في حياته من رجال ؟

دون تردد قال : «جواهر لال نهرو (رئيس وزراء الهند) ، شارل ديغول (الرئيس الفرنسي) ، تشو ان لاي (رئيس وزراء الصين)» !

وأسوأهم ؟

أجاب : «موبوتو سيسي سيكو - رئيس الكونغو» !

كان الأستاذ هيكل لا يخفي اعجابه بالرئيس حافظ الأسد ، فهو لديه عدة سمات :

- ضابط مكترث بأن يعلم بأكثر مما هو ضروري لمهنته - الاهتمام بالشأن العام والاقتراب من السياسة .

- ضابط التقى بحزب عقائدي قومي منتظما في صفوف الحزب ليصل إلى منصب رئيس اللجنة العسكرية بحزب البعث.

- مدرك لموقع سوريا في حوض البحر الأبيض المتوسط ، ودورها في العمل القومي، وقد أصبحت مسرحا (جائزة) لصراع القوى الإمبراطورية وهدفا لصراعات القوى الإقليمية في زيادة نفوذ كل منهما.

- قارئ شغف للتاريخ العربي، ومهتم بسيرة صلاح الدين الأيوبي (تزين مكتبه لوحة ملحمية للجيوش العربية تحت قيادة الناصر صلاح الدين) ، ومن هنا أدرك أهمية العمل القومي مع مصر ، خاصة مع تجربته العملية في مصر ما قبل حرب أكتوبر 1973 (امتدت فترة إقامة الأسد في القاهرة لثلاث سنوات : 1959 - 1961).

- مع كل هذه المزايا السابقة ، كان مفضيا إلى فهم concept استراتيجي جعلته يمد خطوطه بكفاءة من بيروت إلى طهران ، في محاولته كلاعب تكتيكي بارع أن يجمع في يديه مجموعة من الأوراق الرابحة.

لكن الخروج المصري من الدائرة العربية ، والحرب الأهلية في لبنان مع بعديها الإقليمي والدولي، ومأساة الحرب العراقية الإيرانية ، والسقوط السوفيتي المزعج، وخطأ اجتياح الكويت (ما يعني تدمير الجبهة الشرقية تماما)، وصدمة أوسلو، جعلته يعتمد سياسة الصبر والانتظار !

وقد تذكر الأستاذ هيكل موقف الرئيس الأسد يوم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ، كان يومها متقلدا منصب وزير الدفاع وما أن سرى خبر الوفاة يوم الاثنين 28 سبتمبر 1970 ، حتى أجهش حافظ الأسد بالبكاء ، وهو يقول : «كنا نتصرف كالأطفال ، وكنا نخطئ ... وكنا نعرف أنه هناك يصحح ما نفعل ويرد هو آثاره» .

واستحضر الأستاذ هيكل ، زيارة الرئيس الأسد لموسكو يوم الخميس 6 يوليو 1972 ولقاءه مع الرئيس السوفيتي نيكولاي بودجورني Nikolai Podgorny بالكرملين ، وقد أتيا على ذكر مقالات الأستاذ هيكل عن «حالة اللاسلم واللاحرب - يونيو 1972» ، وكان تعليق الرئيس بودجورني للرئيس الأسد : «إن الذين يقولون أن الاتحاد السوفيتي مستفيد من حالة اللاسلم واللاحرب يرددون دعاية استعمارية ضدنا» !

(بعدها بيومين قام الرئيس السادات بسحب الخبراء السوفييت، مما اضطر الرئيس الأسد أن يزور القاهرة للاطلاع على سبب القرار المتسرع، ولإزالة الخلاف. وقد حثه الرئيس السادات أن يطرد الخبراء السوفييت، لكنه مانع قائلا: «إنهم هنا من أجل مصلحتنا نحن». ومن المتناقضات أن الرئيس السادات كان قد وقع معاهدة صداقة مع موسكو في مايو 1971، بينما الرئيس الأسد كان يهوى ترديد «إن الصداقة لا تحتاج إلى معاهدة») !

وعرج الأستاذ هيكل، على لقاء الرئيسين السادات والأسد في مطار الكويت يوم الخميس 1 نوفمبر 1973 لسبع ساعات (بعد 10 أيام من وقف إطلاق النار). روح التقاعس هيمن على الاجتماع، وبدا عليهما الانهاك بعد شهر حافل، ومن اتهامات متبادلة بينهما عن إخفاق خطتهما المتفق عليها للقتال على جبهتين.

وروى الأستاذ هيكل، عن اجتماع وزير الحربية المصري الفريق أحمد إسماعيل علي، بمنزل الرئيس الاسد يوم الثلاثاء 2 أكتوبر 1973 ونقاشهما حول ساعة بدء العمليات وبعد دراسة تفصيلية صدق عليها الرئيس الأسد تحددت الساعة الثانية والدقيقة الخامسة بعد ظهر السادس من أكتوبر موعدا «الساعة س - ساعة انطلاق العمليات».

تحدث الأستاذ هيكل، عن هنري كيسنجر وأنه معجب إلى حد بعيد - كأستاذ تاريخ - بالرئيس حافظ الأسد . كان حكمه بعد أول لقاء له مع الأسد يوم السبت 15 ديسمبر 1973 : «إن الرئيس السوري متشنج convulsive» . لكنه بالتجربة غير رأيه في الرئيس السوري وأصبح يعتقد أنه أمام رجل متزن يعرف ما يريد ويحاول الوصول إليه .

وقد أخبرني الأستاذ هيكل، عن آخر لقاء جمعه بالرئيس الأسد في فبراير 1975 في دمشق (التقى به بعد ذلك مرتين: يوم السبت 7 يناير 1995 ، ويوم الاثنين 29 يونيو 1998). كانت إسرائيل وقتها قد عرضت على سوريا بضعة كليو مترات في القطاع الجنوبي من الجولان في اتفاقية جديدة. بينما الأهمية كلها مركزة في القطاع الشمالي منها ، وكان تعليق الرئيس الأسد : «ماذا أفعل بستة أو سبعة كيلو مترات في القطاع الجنوبي من الجولان ... هل أزرعها حنطة ؟!» .

وعلق الأستاذ هيكل ، عن ذهاب الرئيس حافظ الأسد إلى جنيف يوم الاثنين 9 مايو 1977 ليقابل جيمي كارتر لسبع ساعات في فندق الانترناشيونال : «ذهب كمقاتل عربي لا يملك إلا عبارة واحدة يقولها إنني أبحث عن السلام العادل لشعبي وأمتي ، فإذا لم أحصل عليه فليس أمامي غير استمرار القتال ، وليس عندي خيار آخر . لقد ذهب مطلوبا لا طالبا» !

وأعرب الأستاذ هيكل عن تفهمه ، لرفض الرئيس حافظ الأسد للاقتراح الذي نقله له سايروس فانس يوم الأربعاء 3 أغسطس 1977 باسم الرئيس السادات (اجتمع فانس مع السادات في مدينة الإسكندرية يوم الاثنين 1 أغسطس) ، والقاضي بإنشاء مجموعة عمل يرأسها فانس نفسه وتتولى وضع جدول أعمال لمؤتمر جنيف ، وكان مقتضى اقتراح مجموعة العمل أن تتشكل لجنة ينضم إليها وزراء خارجية مصر وسوريا والأردن وإسرائيل وأن تجتمع هذه اللجنة تحت رئاسة وزير الخارجية الأمريكي . وكان الاقتراح على هذا النحو نوعا من المفاوضات المباشرة بين أطراف خمسة، ثم يكون على الطرفين الباقيين وهما الاتحاد السوفيتي ومنظمة التحرير الفلسطينية أن ينتظرا دورهما حتى ينعقد مؤتمر جنيف ، وبعد أن يتم التمهيد له في نيويورك التي كان الكل في الطريق إليها مع بدء دورة الانعقاد العادي للجمعية العامة للأمم المتحدة .

ويوم الثلاثاء 27 يناير 2009 (ذكرى زواجه الـ 54) ، كان في استقبالي مع قرينتي في بيته الريفي ببرقاش . وقد جلسنا تحت الشجر . وكان الجو يلقي علينا أريج الأزهار وشذى أشجار المانجا وعبير الورود !

(تملك الأستاذ هيكل مزرعته في برقاش على مرحلتين :

القطعة الأولى ابتاعها من المحامي الأستاذ ريمون شميل عضو مجلس إدارة جريدة الأهرام - وكان الأستاذ شميل هو من قام بعرضها على الأستاذ.

فبعد استقالة الأستاذ من جريدة أخبار اليوم وحصوله على مكافأة نهاية الخدمة ، مضى الأستاذ لشراء أسهما في الشركة الشرقية ايسترن كومباني للدخان، وكان الأستاذ شميل قد بادر الأستاذ بسؤال : «لماذا الأسهم وليس قطعة أرض ؟ ، قطعة الأرض اقتنيتها بدل أتعاب في قضية ، أبيعها لك».

وكان الأستاذ شميل قد تكاسل في الاهتمام بتلك الأرض في أعقاب وفاة قرينته . واندفع الأستاذ لاقتنائها بعد أن عاينها في سنة 1956 .

وقد ابتاعها الأستاذ بثمن أعلى من المعروض ، كون الأستاذ شميل أجاز للأستاذ شراءها بالتقسيط ، وقد كان الثمن هو عشرة آلاف جنيه ، على مدى ثلاث سنوات (سعرها كان ثمانية آلاف جنيه) . مكافأة الأستاذ هيكل من جريدة أخبار اليوم كانت بمبلغ سبعة آلاف جنيه ، وقد طلب يومها الأستاذ استلام المبلغ على دفعتين : شيك بمبلغ خمسة آلاف جنيه ، وقد جيره إلى مالك الأرض (ريمون شميل) ، ثم باع مجموعة أسهم له في شركة الخزف الصيني ، كانت حصيلتهم الفان جنيه، ثم باع مجموعة أخرى من مساهمته في شركة شاهر (شركة مملوكة لأولاد خاله عبد القادر) وكانت حصيلتهم أيضا ألفان جنيه ، والباقي كان ألف جنيه استطاع تدبيره.

القطعة الثانية اشتراها الأستاذ من ورثة عزمي باشا ، وهو جار للأستاذ هيكل وقطعة أرضه ببرقاش ملاصقة للقطعة الأولى.

وقد ابتاعها الأستاذ هيكل بسعر 23 ألف جنيه ، بعد صدور كتابه «وثائق القاهرة - عبد الناصر والعالم» سنة 1972)

وكان لابد من أن أستوضحه وهو قد تجاوز الـ 85 عن إدراكه للموت ، تكلم هو - كعادته - بجمل مأثورة :

«من ضمن منح الله لي ولآخرين عدم الرهبة من دنو الأجل ، بل شجاعة التفكير وإمعان النظر فيه ، هو ضمن السياق ، واستمرار للحياة ضمن طور جديد ، لا أظن أن الموت نهاية ، بل تجديد للحياة !»

كان الود يشع في المكان ، مثيرا للسكينة . وكان الأستاذ سمحا ملاطفا طول الوقت ، مؤمنا من أن العقل سيهمن في النهاية على مجمل التصرفات !

دمث الأخلاق ، وجدانه متماسك ، متنقلا بسلالة من موضوع لآخر ، مثيرا للدهشة في الاحتفاظ بتجاربه السابقة واستعادتها بصياغة لافتة ومحكمة ، مما أبان عن طاقة هائلة كراو لا مثيل له، ورواياته تنفذ منها النكات اللطيفة والمناظر الآسرة والمشاهد المبهجة، مما يشي عن منتهى الرقة في الانتباه والمهارة في الدقة.

تناولنا فناجين القهوة، وعرض عليّ سيجار وظهرت عليه الحيرة عندما اعتذرت عن تدخينه ، فقال الأستاذ إن هذا ذنب خطير . فيما تبدى نشاطه عندما هم بالتدخين، منطلقا، بقدرة مدهشة، مداهما موضوعات متفرقة بين نفثات السيجار.

وفي نهاية اللقاء رافقنا للتجوال في مزرعته. ثم شيعنا ، مسلما بيده، ولبث قائما بالباب حتى ابتعدت السيارة التي قدمنا بها عن عينيه.

-------

(ملاحظة لابد منها : ينطلق الأستاذ هيكل في تحليله السياسي لأي رجل تاريخي من مربع ، ضلعه الأول : أحكام الجغرافيا ، والثاني : حقائق التاريخ ، والثالث: مناخ العصر ، والرابع : التجربة الإنسانية .

وفي إطلالته على إي مشهد أو حدث سياسي ، تكون شرفة : الصراع العالمي والإقليمي هي الحكم.

باحثا في التضاريس محللا، ومتقصيا في التخوم مقارنا ، ومنقبا في الدروب مستخلصا.

مبتعدا قدر الإمكان عن إي رؤية أيديولوجية ، كونها تأسره في مفرداتها الجافة والعقيمة.

نافرا من التفسير والتحليل العقائدي، كونه يحاصره في ثنائية قاتلة .

معرضا عن المثالية وآراء أهل المدينة الفاضلة كونها تشده إلى عالم متخيل من الملائكة لا وجود له في دنيانا .)

هوامش الفصل:

• أدونيس : ديوان «هذا هو اسمي».

• فصل من كتاب يصدر قريبا عن مؤسسة الأهرام المصرية.