892252
892252
شرفات

قصة قصيرة .. ظلال البيت المهجور

09 يناير 2017
09 يناير 2017

محمود الرحبي -

دفعت أحد المصراعين بحذر، فندّ منه أنين مبحوح وهو يجرف في طريقه حصوات صغيرة كنستها الريح عبر الزمن وراكمتها تحت الباب.

السور الطيني الذي يحيط أطراف البيت متراميا في عطفات النظر، كنا نراه فيما مضى مرتفعا فوق قاماتنا ومليئا بالأسرار، بدا في نظري الآن قصيرا وباهتا؛ وقد ظهرت فارغة تلك الثقوب التي كانت مترعة بظلال الأشجار وتحولات الوقت، والتي كنا نستلّ منها العقارب الهاربة من الحر. فيعلو الصراخ حين نظفر بواحدة، ويبدأ أشدنا عزما بسحبها بعودين، ويركض أحدنا ناحية المطبخ لجلب علبة ثقاب. فنستمتع بطقطقات الانتصار التي تبثها النار، وهي تأكل العقرب بألسنتها الملتهبة. كانت عيناي لا تفارقان تلك الجروف، لعلي أكون السبب في اصطياد عقرب. ولكن العقارب لا تظهر بسهولة، إنها ذكية بما يكفي لأن تحافظ على حياتها، وقد حذرنا مرارا من السعي إلى البحث عنها. اتركوا كل شيء للصدف ولا تبحثوا عن العقارب في أوكارها، ومن يفعل ذلك وينتشر نبأه فإن عقابه لن يكون سهلا، إذ ستلسعه ضربات غاضبة من عصا جدّي وتجعله يعيش عذاب حقن بكائه عن الأطفال الذين يندسون خلف النخيل، ولكنهم يرسلون أعينهم كشواهد. وقد حدث أنْ ضربني جدي لهذا السبب، حين رأى عينيّ تلتصقان بجدار الطين في حضرته، ففطن إلى نواياي ولسعني بعصاه، فهرب الأطفال من حولي حتى دون أن يتبينوا السبب، ولكنهم ظلوا يرمقون وجهي من وراء النخيل، وكنت أبذل جهدا كبيرا في إخفاء أي تأثر، ولكن الدموع كانت تطفر من تلقاء نفسها، فأركض إلى الفلج لأخلطها بالماء.. أرش وجهي بغرفات من يديّ الصغيرتين وينتهي الأمر، ثم أبدأ في شق طريقي بينهم وأنا أتصنع اللامبالاة، كأنّ شيئًا لم يكن. ولكن الجد في بعض الأحيان لن يتوقف قبل أن يسمع صوت البكاء، خاصة إذا كان الفعل يستحق عقابًا مضاعفًا؛ سيعتبر الصمتَ تحديًا ولن يرضى به، فتزداد ضرباته وتزداد بالتالي مكابدات الطفل في الصمود إلى أن يطلق صرخة انفجار عالية. والذي يضعف ويبكي، عليه أن يمضي ما تبقى من يومه في الهمّ والوجوم والعزلة، فتراه يمشي وحيدًا مبتعدًا قدر الإمكان عن أعين الأطفال، إلى أن تتكفل أمه أو جدته أو إحدى عماته بدفن رأسه طويلا في حضنها ليكمل ما احتقن في صدره من بكاء؛ وفي الصباح ينتهي أثر كل ذلك، ويبدأ يوم جديد بمشاعر جديدة.

وكنت رسامًا ماهرًا على سور الطين، فبعد أن تطفئ جدتي ضوء القنديل المعلق في غصن شجرة، أقوم برسم ظلال في الجدار، معتمدًا على ما ترسله كواكب السماء البعيدة من ضوء زهيد. كانت جدتي سليمة تحكي وأنا أرسم الصور والأشكال في الجدار. جدتي نصف عمياء تستمتع بالنوم إلى جانبنا. تشرئبّ عيون رفاقي تجاه الشاشة الطينية التي تداعبها ريشة أصابعي من بعيد:

إلصاق إبهامين ورفع السبابة والوسطى يُخرج لك ظل ديك من الجدار، وبطرف ظفر الخنصر أستطيع أن أمنحه عرفاً.. ولرسم قافلة عليّ أن أجلس وأحرك أصابع يدي ورجلي. جمل وهودج وحمولة مهتزة وكلب. أعمى تقوده عصاه في الجدار يتعثر فجأة فتنتبه الجدة إلى الضحكات الخافتة. تسأل عن سبب انفجار الصمت فجأة فلا تجد إجابة. فتقطع حكايتها وتبدأ في سرد أخرى بديلة مخيفة تستخدمها كسلاح وتكررها أنَّى بدر منا ما يزعجها، عن ذلك العجوز الذي رأته يومَ ولدت ابنتها البكر، بلحيته المسترسلة وعينيه البراقتين وهو يسننهما تجاهها. وحين صرخت مغشيا عليها، هرع كل من في البيت ناحيتها. في هذه الأثناء تعجز أصابعي عن رسم شيء في الشاشة، وينكمش قلبي في صدري. نطمئن إلى وجودنا بجانب بعضنا ووجود جدتي التي تكتسي سحنتها علامات رضى من صمتنا. ثم تحرك يدها تحت منامها باحثة عن البلسم الذي اعتادت أن تدهن به رجليها وجبهتها قبل النوم. ثم تغمض عينيها فتعبُر سحابة النوم بهدوء وتجرّنا معها.

مسحت بنظري العشب اليابس، الذي لوح العطش لونه، وتذكرت الراعية التي كانت تترك أغنامها مع ابنتها وكلبها في رأس الوادي، وتدخل بيتنا بصمت وبدون استئذان لتجزّ العشب الناتئ، فتخرج من عندنا بربطة ضخمة على رأسها. وكنا حين تدخل نهرع راكضين جهة الوادي لنراقب شياهها مع الكلب. كنا نتأمل صامتين ذلك الحرص الشديد من الكلب على القطيع، والفتاة ترمقنا من بعيد ووجهها يخفي ابتسامة أثارتها دهشتنا. وحين تظهر أمها، تركض لمساعدتها، فتحمل نصف كتلة العشب التي ستعلقها مربوطة برداء على ظهرها. يحملونه إلى بيتهما كعشاء يتناوله القطيع قبل حلول الليل.

كان الماء يطلق على هذه الساحة المعشبة، وفي شهور الصيف، ينصب السرير السعفي الكبير، سريرنا الجماعي طوال فترة القيظ.. يدخل عامل برفقة ابنيه ومساعدين، محملين بكتل السعف اليابس، يخرجون ويدخلون أكثر من مرة ليتكدس المحيط من حولهم بالزور والجذوع والحبال. ثم يبدؤون في ركز الأعمدة في الأرض الرطبة. أعيننا المتسائلة لا تجد جوابا، ولم يكن ثمة من يجرؤ على سؤال جَدي، كنا نزن الكلام في حضرته، ونزن الصمت أكثر. نتسمر أمام العمال ونراقبهم وهم ينسجون السرير السعفي ببطء.

ولأنّ ساحة النخيل التي نعيش في جنباتها تسقى بوتيرة أكبر في الصيف، لذلك يكون ذلك السرير السعفي هو ساحتنا ومنامنا. يطلق جدي حصته من ماء الفلج على الأرض. وفي الليل حين نأوي للنوم، يكون كل شيء يسبح. نرى خيالات أجسادنا الصغيرة منعكسة في الماء. وفي الصباح علينا أن نركض في أرض رطبة، لا تلبث شمس الظهيرة الصيفية أن تخشّنها.

كان أول ما نفعله في الصباح هو التقاط التمر المبعثر طوال الليل على الأرض، لإفطار الماشية المحبوسة في بيوت خشبية على طرف سور البيت. نخرج بعد ذلك إلى الطرقات. يأخذ كل منا كتابه الرقيق، وهو الجزء الأخير من القرآن؛ جزء «عمّ». كانت الكتب بلا أغلفة بسبب قدمها. تتوارث في بيتنا منذ دهر؛ وبعضها تتساقط أوراقه فتبدو السور ناقصة، وبعض الأوراق نحصل عليها من جروف الجدران في سورنا أو أسوار الطريق، إذ تمتد أيادي الناس ما أن يروا خبزة أو صفحة من القرآن ويحشرونها في الجروف أو يرفعونها أعلى الأسوار الطينية للطريق احتراما وخشية.

المعلم سعود -معلم القرآن-بلحيته الطويلة وعينيه الضيقتين، حين أستحضر صورته الآن أجدها متطابقة مع بعض صور الصينيين المتدينين.. وهدوؤه وقلة كلامه يؤكدان هذا المنزع. عصاه تتحرك يمنة ويسره دون أن ترتفع إلا لضرب الأرض إعلانا للصمت أو لبث الصدمة في ظهور وأكتاف بعض الساهين بالحديث الجانبي أثناء انهماكه بالتلاوة. كان يحرك عينيه وهو يقرأ ونحن نرتل وراءه. يبدأ بتعليمنا حروف العربية شفاهة، كان كل تعليمه شفهيًا. لا يستعين بالأوراق والأقلام والألواح حتى وهو يعلمنا الحروف، إذ علينا أن نرسمها بخيالنا كما رسمها لنا بشفتيه؛ ونحن نردد وراءه:

الباء تحتها نقطة... والنون فوقها نقطة. والسين ليس لها.

الضاد فوقها نقطة. والقاف فوقها نقطتان والصاد ليس له.

الشين فوقها ثلاث. والفاء فوقها نقطة. والطاء ليس له.

الزاي فوقها نقطة والياء تحتها نقطتان. والعين ليس لها.

وهكذا، يقفز بالحروف من سطر إلى آخر بدون اتفاق سوى اتفاق سير غناء القافية. بعد ذلك، نشرع في قراءة السور القصار وراءه.

وحين نعود إلى البيت، أجد أبي على رأس النخلة. يرمقني بنظرة عجلى ثم يكمل عمله. كان أبي يعمل ويعيش في مطرح، ولكنه في الصيف يتركنا، أنا وأخي، عند جدي وزوجتيه؛ لتكون لي جدتان في ذلك البيت.. يأتي كذلك إلى البيت الكبير أبناء وبنات عماتي وأعمامي. يتركون أبناءهم في باحة البيت ويختفون. اثنتان من عماتي وأحد أعمامي يسكن في سرور، لذلك يمكننا أن نراهم ونلعب مع أبنائهم بين وقت وآخر.

يبدأ عمي في الانتقال على النخلات الكبيرة ليجني التمر. تجلس جدتاي وعماتي في الأسفل على حصير. يرسل عمي من الأعلى قفيرًا مملوءًا بالتمر. يفرغنه ثم يرفعه إلى رأس النخلة وهو يترنح خفيفًا، ثم يبدأ في ملئه من جديد. ونحن الصغار، كان كلّ منا يمسك بجبة أو وعاء صفيحيّ في يده لالتقاط ما يساقط بعيدا عن الحصيرة وعمود النخلة.

لمحت قنديلاً منكفئًا على ظهره، تظهر قاعدته الصدئة وقد زحف فوقها رتل من النمل، فبدت في الأرض وكأنها جسر رابط بين عالمين وهميين. القنديل الذي كانت تشعله جدتي سليمة بالتمر والكيروسين وتضعه في طريق جدي القادم من صلاة العشاء لكي لا يتعثر بالعتبة. فيرفع عصاه حين يلمح النور. يجلس كعادته على الحصير منتظرا العشاء ويلقي نظرة عابرة على المحيط الذي يضيئه السراج. نجتمع في دائرته صامتين. تأتي جدتي بصحن البيض أو العدس والخبز والحليب الساخن. يأكل جدي عدة لقيمات ثم يقوم منسحباً ناحية الفلج ليغسل يديه. لحظتئذ نتحرر من انكماش الخوف والتردد وننقضّ على الصحن وننهيه، ثم نغمس ما تبقى من خبز في أكواب الحليب ونرفعها مبلولة إلى أفواهنا.

ينام جدي بعيدا عنا، في طرف الباحة، بينما نحيط نحن الصغار بجدتي سليمة ونبدأ في الهمس.

دفعت قدميَّ إلى الداخل قليلا. كانت الأرض جافة بسبب هجرة الماء عنها. هذه الأرض نفسها التي لم نكن نراها في طفولتنا إلا مرتوية، يقوم العشب بين فراغاتها كسلا متمايلا. الجدول الذي اشتقه جدي من الفلج مخترقا طرف السور، حيث يمر بالمطبخ. وكانت ساحة مائية لاستحمام ولعب الرضع، وجدتاي تغسلان التمر في تلك الساقية ثم تنشفانه. تظلان نهاراً كاملاً في ذلك الحيز الذي تتعاقب عليه الظلال. وكان ماء الساقية يغني بجانبهما. كنا نشاركهن مائدة الجني تلك. أعين جدتَيّ نحو الأرض وشفاههما وآذانهما تعملان كذلك. كن يتحدثن عن ماضيهن، ويأتين بقصص عن حياتهن، بدت لنا حينها بعيدة وعجيبة.

وهناك سمعت جدتي زهرة، التي لا تتحدث إلا لماما، تقول: «إن الله يُدخل الناس الجنة ولكنّ أعمالهم تدخلهم النار».. وقد ظلّت حكمتها ساكنة رأسي.

رأيت كذلك صفيحة المعدن، وقد بدت صدئة مبعوجة ومنكبة على وجهها. هذه الصفيحة المتوارثة في البيت منذ الأزل، أتذكر جزءا من سيرتها، حين كانت جدتي سليمة تحملها على رأسها في طريق أوبتها من نبع ماء الشرب، ثم تفرغ محتواها في بطن قُلّتي الشرب الطينيتين المعلقتين على غصني شجرة الليمون التي نفرش تحتها حُصُر الجلوس في النهار والفرش الإسفنجية في الليل.

وحين اقتربت من بيت الدواب، وهو دريس آيل خلع بابه تماما وامتلأت أرضه ببقايا خرائط من بعر وروث قديم متصلد، لمحت سلسلة حديدية صدئه سوداء نائمة ومثبتة بوتد خشبي يغوص ثلثاه في بطن الأرض. حرّكتها بطرف قدمي وكأني أقلب صفحة الزمن إلى الوراء، إلى أربعين عاما خلت.. في صباح العيد، سحب العجل الذي عُزل عن أمه قليلا لكي تتهيأ لفراقه، وكذلك لكي لا ينقطع در الحليب من ضرعها. لن تجدوا في ضرعها شيئًا.. هكذا كانت جدتي زهرة، الخبيرة، تقول. رغم أنها لا تتكلم كثيرًا في البيت، فإنها إن فعلت فإن كل عبارة تقولها إما إنذار أو حكمة.. وهكذا حين تهرع إلينا جدتي سليمة في الليل، بعد أن رأت في بيت الخزين شبحا لجنّي. ولكن جدتي زهرة تطمئنها: هؤلاء الجن من أهلنا الصالحين، وهم مسلمون ولا يضرّون أحدًا. وجودهم معنا لا يقلق، لأنهم يحمون البيت من الشياطين والثعالب.

وجدتي زهرة لا تشاركنا كعادتها المنام. فهي تفضل دائما أن تنام في الغرفة الطينيّة صيفاً وشتاء. صامتة معظم الوقت ولكنها وقت الأعياد كانت تفك الصرة التي تدلى من غطاء رأسها، وتعطينا من نقودها. وتفتح خزانتها وتعطينا من حلواها التي خبأتها انتظارا لهذا اليوم.

وكنا نركض في صباح العيد، كان أكثر يوم نركض فيه. شيء سري يدفعنا إلى الركض بملابسنا الجديدة ووجوهنا طلقة بالسعادة في أقصى تجلياتها. في يوم العيد كانت البرك المائية التي تترصع بها قريتنا (سرور) كفيلة بتحويل ملابسنا البيضاء الناصعة إلى ملابس ملطخة بالطين والماء. كان الطين والماء يتناوبان على أجسادنا. فالماء يغسلها والطين يلطخها. وهكذا في مسار لا يوقفه سوى الظلام الذي يكون بمثابة فاصل وهميّ لا يلبث أن يتبدَّد في الصباح، فتستأنف أجسادنا ركضها وجنونها.

كنا نركض، نركض.. حين كان المرح هدفاً.

الدجاج «يقوقئ» بلا انقطاع. وكان عندي ديك خصّصته لي جدتي زهرة مازحة حين كان صوصاً، سيكون لي إذا كبر وصار ديكاً، ولكني أخذت الأمر على محمل الجد، وراقبت عرفه الأحمر وهو ينمو بطيئاً. وذات يوم سألت عنه فور أوبتي من مدرسة القرآن، فقالت لي الجدة إنهم ذبحوه للغداء، وسوف أذوق لحمه الطيب؛ ولكني رفضت الغداء في ذلك اليوم وشرعت في البكاء بحرقة.

في المساء تهاطل السيل ومسح دموعي. فشرع خيالنا العطشان يرسم لوحته وحلوقنا تهتف: «سيلْ، سيل سيليّه. حمامة فوق لو ميّه».

كان المطر النادر عادة ما تسبقه الريح وتلوح بالقطرات في الجباه وفي جريد النخل. كانت أعيننا على المطر والضحك، ولكن أعين الكبار قلقة من هجوم الوادي في أي لحظة. فيشرعون في رفع الحواجز وقطع الأشجار الآيلة لتثبيتها كعوارض في طريق الوادي المحتمل. ولكن المطر يتوقف فجأة وكأنما كانت سحبه تجري في الحلم.

أعود أدراجي خارجا، وكانت آخر مشاهدي في البيت المهجور غرفة الخزين، هذه الغرفة المظلمة التي كان جدي يملؤها بمؤونة موسم كامل من التمر والأرز والسكر والطحين وقصادير السمك واللحم المملح... والآن خاوية إلا من جرار مكسورة. كما لمحت بين العشب اليابس الأثافي الصخرية الثلاث المصبوغة حوافها بالسخام. ذلك المثلث الذي بدا مهجورا والذي كان فيما مضى مغطى بأجساد جدتَيّ أو عماتي أثناء الزيارات. استيقظت فيّ ذاكرة الجوع الطفولي أثناء الغداء، حين كنا نتحلق حول النار، علنّا نظفر بغَرفة من مرق أو قطعة من لحم. وقفت لحظة متأملاً الحجارة الصامتة القوية، التي لم تترك فيها ألسنة النار المتعاقبة عليها عبر السنين سوى أثر عابر.

كان الوقت ظهرًا، ما أضفى مسحة من الأمان وأذاب هزة الروع التي شكلها صمت المكان المهجور. فلو كان الوقت أصيلاً أو غروبًا لاحتشد الخوف سريعا مدفوعا بحكايات الطفولة التي كانت تتداول في أرجاء البيت ما أن يحلّ الظلام؛ رغم إدراكي حين كبرت لمكر تلك الحكايات وما فيها من نوايا تحفيز على النوم الباكر الذي يريح الجدّات، فكل من يظل مستيقظا من الأطفال فإن الأرواح ستتكفل بالاقتراب منه والطبطبة على ظهره حتى ينام. هكذا كانت جدتي سليمة تمهد لكل حكاية، وفي الأصل كانت تدفعنا إلى النوم، فكنا بسبب ذلك نخاف أشد الخوف من ذلك الهاجس، لاقترانه بأرواح غريبة عنا، فننام في منتصف الحكاية أو في أطرافها، لنفيق باكرًا مع أصوات الطيور وضربات العجين فوق صفيح النار ودخول أول خيوط النور إلى بيتنا الواسع.

خرجت من البيت وأغلقت الباب ورائي، الباب الذي ظل مصراعاه مفتوحين سنين طويلة، سيظل مغلقا الآن ولكنْ بدون قفل.

لم تكن عتبة العبور إلى الخارج سوى لوح خشبيّ مبلل مغطى بشوالين ركينين، والذي اعتادت الأقدام في ما مضى على عبوره دون انقطاع. الأقدام الحافية الصغيرة الرطبة، وتلك المحاطة بالنعال والتي تجرف في طريقها الطين ممزوجًا بالأعشاب. فقد كان جميع العابرين يتركون بَصمتَهُم الرطبة في القنطرة الخشبية التي تفصل البيت عن الفلج، قبل الدخول، وبعد الخروج من عتبة الباب الخشبي العتيق.

وأنا أخرج من البيت، تراءى لي الفلج الداودي الذي يعبُر من تحت السور كحارس أزلي. لم يعد الآن سوى ساقية ضعيفة تتبدى كمرآة ضامرة بالكاد تلامس قاع جدارَي الساقية التي تركت فيهما مراحل ضمور الماء آثارها؛ فقرب الحافة يرتسم خيط جاف يدلل بخجل على نشاط الفلج ذات يوم، حين كان في كامل عنفوانه، وهو يفيض على الجانبين لأدنى غمسة. فلا تحتاج النسوة حينها من أجل غسل الملابس والصحون إلى الانحناء، فيرسلن سيقانهن السمراء لتتدلى في الماء، ويبدأن العمل والحديث، والأطفال من حولهن في كامل جنونهم.

وفي المنتصف يستقر خط آخر داكن قليلاً مقارنة بسابقه، ولم تفارقه الرطوبة نهائيًا، يدلل هو الآخر على نضوب متأخر للماء. وفي مثل هذه الحالات، كانت النساء يضعن صخرة ثقيلة في الساقية لرفع منسوب الماء قليلاً إلى حيث يجلسن. وفي أسفله خط ثالث مخمليّ مطحلب يشير، بصراحة أكبر، إلى أن منسوب الماء ظل صامدًا زمنًا على هذا المستوى قبل أن يلتصق بقاعه.

ركزت عيني على تموجات القاع ورأيت سحنتي الشاردة وهي تسبح في الصفحة التي تخترقها بين حين وآخر أسماك صغيرة تائهة تسرع الخطى، ثم تعود من الطريق نفسها. حينها أدركت أن الأسماك الصغيرة يتقلص حجمها بتقلص مستوى الماء؛ فما كان منها في الذاكرة كبيرا في حجم أصبع من أصابع اليد الوسطى لشاب، غدَا الآن في حجم خنصر طفل، يتحرك مذعورًا كطيف أو ظل لقشة صغيرة. غمست يدي في أقصى انحنائي وحرّكت صورتي الجامدة وأنا أغرف بيدي. رششت وجهي فانتعشت لحظة ونبض قلبي كقلب طائر يخفق بين الحقول.

رفعت جسدي من حافة الفلج، والتفتّ يسرة ناحية الفراغ، فانبعثت صورة حمّام النساء الجماعي الذي كان منتصبا فيما مضى، يستره رداء ركين بلله الثقل؛ ففي هذا المكان الذي أصبح أثرا بعد عين، كانت نسوة الحارة يتجمعن منذ الصباح، في دفعات. لا يصلنا من الداخل سوى أحاديثهن. وتأتينا من هناك أوامر تقطع سير ركضنا المجنون. تعرف النساء أبناءهنّ من الأصوات، كما يعرف الطفل صوت أمه وأخته وعمته وجدته من ضحكتها.

الحمّام هدم نفسه بنفسه مع الوقت، حين هجرته الأجساد.

تقدمت مبتعداً عن البيت القديم.. كان الصمت يغلف كل خطوة أدفع بها جسدي. ولكني وقفت فجأة، وأدرت ظهري ناحية سور البيت الذي يلوح من بين الأغصان وتساءلت:

كم يا ترى مرّ من الوقت وأنا أتنزّه في ذلك البيت؟