إشراقات

مكانة المسجد الأقصــى في قلوب المسلمين

05 يناير 2017
05 يناير 2017

المحافظة عليه وتطهيره مطلوب من الأمة -

887431

قال سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة في إحدى محاضراته : المسجد الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهت رحلة الإسراء إليه وابتدأت رحلة المعراج منه، فعلى الأمة أن تحافظ على هذا المسجد وأن تذب عنه وأن تحرص على تطهيره من الأرجاس كما أنها مسؤولة كذلك تجاه المسجد الحرام.

ولحكمة علمها الله سبحانه عندما أخبر بهذا الحدث التاريخي العظيم ذكر قصة بني إسرائيل، فبنو إسرائيل تاريخهم تاريخ ملوّث، تاريخ فيه مخالفة لأمر الله فيه تحد لأنبيائه فيه كفر صريح بما جاء به الأنبياء، فيه قتل للأنبياء، فيه مؤامرات على الصالحين.

وقد أفسدوا في الأرض في التاريخ القديم مرتين وفي كل مرة يسلط الله سبحانه وتعالى عليهم من يسومهم سوء العذاب فقد سلط عليهم في المرة الأولى البابليون فساموهم سوء العذاب فكانوا عبرة لخلق الله وذلك بعد ما لوثوا معتقداتهم بالوثنية وانشقوا على أنفسهم ومنهم من كان وثنيا صريحا.

وبعد ذلك تداركتهم عناية الله سبحانه وتعالى لأجل أن يختبرهم الله ثم عادوا كرة الإفساد مرة أخرى فعادت عليهم كرة القضاء والقدر وكان ما كان من إخراج انطونيوس لهم من بيت المقدس وسامهم سوء العذاب وشرد بهم في الأرض تشريدا.

وكثير من الناس من يرى أن القضية التي توعدوا من أجلها والتي حصل ما حصل لهم إنما هي مرتبطة بالواقع الحاضر فهم يرون أن هي هذه الكرة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في فاتحة سورة الإسراء ولكن من تدبر سياق السورة الكريمة أدرك أن بداية السورة كان إخبارا عن هذا الواقع الذي وقع من قبل وليس هو إيذانا بما سيقع من بعد؛ وإنما ندرك أن سنة الله تعالى لا تتبدل، ففي السورة الكريمة ما يؤذن بأنهم عندما يعودون إلى الفساد يعود عليهم القدر بالعقاب فالله تعالى يقول: «وإن عدتم عدنا» وهذا يؤذن انهم مع هذا الإفساد الذي يفسدونه في الأرض في وقتنا هذا لا بد أن يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر وإنما أراد الله سبحانه وتعالى بهم أن يمحص هذه الأمة. هذه الأمة حصل ما حصل فيها من التبديل والتغيير وتعطيل أحكام الله تعالى واتخاذ السبل بدلا عن سبيل الله فلذلك نكبت بما نكبت به، ولكن عندما تفيق من سكرتها وتستيقظ من سباتها وتعود إلى رشدها وتستمسك بحبل الله تعالى المتين وتستبصر بنوره المبين وتتبع ذكره الحكيم وتنهج صراطه المستقيم عندئذ يعود الله تعالى عليها بعوائد الخير ولا بد من أن يطفئ لهيب هذه الفتنة التي يوقدها بنو إسرائيل وقد أخبر الله تعالى أن ذلك من شأنهم عندما قال «كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا» فهم من شأنهم أن يوقدوا نار الحرب وأن يسعوا في الأرض فسادا ولكن الله سبحانه وتعالى يطفئ نارهم وليس إطفاء النار الملتهبة الآن منا ببعيد، فإن الله تعالى على كل شيء قدير ولكن علينا أن نكون صادقين مع الله سبحانه.

رمز معنوي للشخصية المسلمة - 

887468

في المسجد يتعرف الناس إلى ربهم ، ويتعلمون أحكام دينهم ، وفيه يقفون على المنهج الأمثل لتطبيق هذه الأحكام ، وفيه تقام الصلوات وأنواع العبادات ، ومن دون المسجد تؤول وحدة المسلمين إلى شتات وتفرقهم الأهواء والشهوات ، لذلك سارع النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن وطئت قدماه أرض المدينة ، وهي أول دار للإسلام ، سارع إلى بناء المسجد ليكون الركيزة الأولى في بناء المجتمع الإسلامي .

روى أن تميما الداري ، أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حمل من الشام إلى المدينة ، قناديل ، وزيتًا وحبالًا ، فلما انتهى إلى المدينة ، وافق ذلك ليلة الجمعة ، فأمر غلامًا له فربط الحبال ، وعلق القناديل ، وصب فيها الزيت ، وجعل فيها الفتيل ، فلما غربت الشمس أمر غلامه فأسرجها ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فإذا هي تزهر فقال :

(( من فعل هذا ؟ ))

قالوا : تميم الداري يا رسول الله .. فقال :(( نوّرت الإسلام ، نور الله عليك في الدنيا والآخرة ، أما لو كانت لي ابنة لزوجتكها )) فقال نوفل بن الحارث : لي ابنة يا رسول الله ، تسمى المغيرة ، فافعل بها ما أردت فزوجه إياها .( نوفل بن الحارث رضي الله عنه هو صحابي أبن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أسن من العباس ، حضر بدرًا مع المشركين ، فأسر ففداه عمه العباس ثم أسلم ، وهاجر عام الخندق أعان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين بثلاثة آلاف رمح ، مات سنة 20هـ وقيل 15هـ (سير الأعلام1/‏‏199). ويتعرض المسجد الأقصى موطن سيدنا إبراهيم ، ومتعبد الأنبياء السابقين ومسرى خاتم النبيين ، المسجد الذي نوه الله به في الآيات المفصلة ، وتليت فيه الكتب المنزلة ، أولى القبلتين ، وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين الشريفين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه كما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم .

المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله ببركات الدين والدنيا ، والذي أضحى بالإسراء إليه ، والمعراج منه رمزًا للشخصية المعنوية للمسلمين ، وهذا المسجد يتعرض اليوم لاعتداءات متكررة على بنائه حيث تجري أعمال الحفريات في حرمه وما حوله ، بزعم التنقيب عن هيكل سيدنا سليمان ، إنها حجة واهية تخفي وراءها نوايا عدوانية تستهدف تخريبه وإزالته من الوجود ، وطمس هذا المعلم الإسلامي البارز من المعالم والمقدسات الإسلامية، وتدنيس فاضح لحرمة هذا المكان الطاهر.

فإنها مؤامرة تُحاك ضد هذا المسجد ، حيث يحلم الصهاينة ببناء معبد يهودي على أنقاضه ، لذلك هم ينشطون لإبراز مسجد الصخرة على أنه المسجد الأقصى ، تمهيدا لإزالته ، وبناء المعبد المزعوم مكانه .

ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .. قال تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

فإن الخزي والعار في الدنيا ، والعذاب العظيم في الآخرة ، جزاء من يمنع مساجد الله ، أن يُذكر فيها اسمه ، ويسعى في خرابها ، أما الذي يعمر مساجد الله بالبنيان ، وينورها بالإيمان ، فعمله هذا علامة مميزة ، على صحة الإسلام ، وصدق الإيمان ، قال تعالى: «إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ».

ولو انتقلنا إلى مدينة القدس ، حيث المسجد الأقصى متعبد الأنبياء ومسرى خاتم النبيين ، وعدنا عبر البعد الزماني إلى يوم الجمعة الواقع في السابع والعشرين من شهر رجب عام خمسمائة وثلاثة وثمانين للهجرة ، الموافق في الثاني من أكتوبرعام ألف ومائة وسبع ثمانين للميلاد .. لوجدناه يومًا عظيمًا تم فيه فتح مدينة القدس من قبل المسلمين وبقيادة البطل صلاح الدين ، وتم تحريرها من أيدي الغزاة الطامعين ، وها نحن أولاء نرى القلوب قد امتلأت بالفرح ، والوجوه قد عمها البشر ، ونسمع الألسنة وقد لهجت بالشكر وقد علت الرايات وعلقت القناديل ورُفع الأذان وتُلي القرآن ، وصفت العبادات وأُقيمت الصلوات وأديمت الدعوات ، وتجلت البركات وانجلت الكربات وزال العبوس وطابت النفوس وفرح المؤمنون بنصر الله.

وها نحن أولاء ندخل المسجد الأقصى ، فإذا المسلمون وفيهم صلاح الدين وجنده يجلسون على الأرض ، لا تتفاوت مقاعدهم ، ولا يمتاز أميرهم عن أحد منهم ، قد خشعت جوارحهم ، وسكنت حركاتهم هؤلاء الذين كانوا فرسانًا في أرض المعركة ، استحالوا رهبانًا خُشعًا كأن على رؤوسهم الطير ، في حرم المسجد ، وها هو ذا خطيب المسجد محي الدين القرشي قاضي دمشق يصعد المنبر ويلقي خطبته ، ولو ألقيت على رمال البيد ، لتحركت وانقلبت فرسانًا ولو سمعتها الصخور الصم لانبثقت فيها الحياة .. لقد افتتحها بقوله تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

وها نحن أولاء نستمع إلى فقرات من خطبته : «أيها الناس ابشروا برضوان من الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا ، لما يسّره الله على أيديكم ، من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة ، وردّها إلى مقرها من الإسلام ، بعد ابتذالها في أيدي المعتدين الغاصبين قريبا من مائة عام ، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يُرفع ويُذكر فيه اسمه ، من رجس الشرك والعدوان .ثم قال محذرًا : إياكم ، عباد الله ، أن يستذلكم الشيطان ، فيُخيل إليكم أن هذا النصر كان بسيوفكم الحداد ، وخيولكم الجياد .. لا والله وما النصر إلا من عند الله .. فاحذروا ، عباد الله ، بعد أن شرَّفكم الله بهذا الفتح الجليل ، أن تقترفوا كبيرة من مناهيه ، انصروا الله ينصركم .. خذوا في حسم الداء وقطع شأفة الأعداء».وها نحن أولاء نخرج من المسجد الأقصى ، ونلتقي بأحد الفرنجة الذين شهدوا فتح القدس وها هو ذا يحدثنا فيقول: إن المسلمين لم يؤذوا أحدا ، ولم ينهبوا مالا ، ولم يقتلوا مُسالما ، ولا مُعاهدا ، وإن من شاء منا خرج وحمل معه ما شاء ، وإننا بعناهم ما فضُل من أمتعتنا ، فاشتروها منا بأثمانها ، وإننا نغدو ونروح آمنين مطمئنين لم نرَ منهم إلا الخير والمروءة ، فهم أهل حضارة وتمدُّن ، وصدق من قال : « ما عرف التاريخ فاتحا أرحم منهم ».

*المصدر: موسوعة النابلسي.