887014
887014
شرفات

السماء الثامنة : كيف تفكك العالم العربي؟

02 يناير 2017
02 يناير 2017

عاصم الشيدي -

حاول الصحفي الأمريكي الخبير في شؤون الشرق الأوسط سكوت أندرسون أن يجيب على سؤال «كيف تفكك العالم العربي؟» من خلال تحقيق استقصائي ملحمي نشرته مجلة «نيويورك تايمز» على عدد كامل من أعدادها أغسطس الماضي. يحمل التحقيق الذي جاء في أكثر من 36 ألف كلمة استفزازا كبيرا للقارئ العربي ليس من خلال مضمون التحقيق وما وضعه من مقدمات ونتائج، فهي تكاد تكون حقيقة شبه مطلقة، ولكن لأن الذي أنجزه صحفي أمريكي، وليس صحفي عربي أو مؤسسة بحثية عربية استشعرت الخطر وبحثت في عمقه، أو صحيفة عربية كلفت صحفي من صحفييها أن يقوم بالعمل الذي قام به الصحفي الأمريكي!

العالم العربي يتفكك ويتلاشى ليس حضاريا أو ثقافيا ولكن أيضا يلاشى حياتيا، ويفقد أسباب الحياة فيه. لم تعد الكثير من دوله بيئة صالحة للحياة عند أدنى مستوياتها، تنتهي دوله من كونها دولة، تتحول إلى مجرد مليشيات وتنظيمات قتالية تتحارب وتتناحر، تفقد الدول وجودها، وتنتهي السلطات، السلطات العربية التي كان يضرب بها المثل في الشدة وقوة استحكامها على كل شيء، ديكتاتوريتها، تفقد كل شيء وتنتهي ولا تعلن المراكز البحثية العربية حالة استنفار، لا تتفرغ لدراسة الحالة ووضع الحقيقة أمام الجميع. لا يضع أحد في هذه الدول نقطة عند سطر من السطور ويخلع الساسة والجنرالات نياشينهم ورجال الدين عمائمهم جانبا ويقرروا قراءة المشهد وبحث حقيقته و«أين يكمن الخطأ؟ أين منبع المأساة وحقيقتها؟ أين النقطة التي على الجميع أن يبدأوا من بعدها؟». بينما الأنظمة الغربية التي خططت لكل ما يحدث، تعود وتدرس الحالة وكأن ما حدث قد حدث من منطلق عربي بحت. حتى المواطن العربي الذي يحمل السلاح على كتف ويحمل مذهبياته على كتف آخر لا يقف ليتفكر من يقاتل؟ وضد من يحمل السلاح؟ وما المصير الذي ينتظره هو نفسه سواء حقق نجاحا ما حمل من أجله السلاح أم لا؟

هناك مراكز بحثية تشتغل وفق هوى ساستها ووفق توجهاتها وليس وفق البحث العلمي ولذلك لا يحدث تغييرا، وإن تجردت من كل ذلك فإن أصحابها لا يعدمون من يقاتلهم فكريا وحياتيا أيضا.. قرأت كما يقرأ الجميع العديد من البحوث التي لا ترقى إلى الإقناع في تشكل المشهد العربي الحالي، تنبني على معطيات خاطئة وتصل إلى نتائج خاطئة.. تلعب السياسة دورا في السيطرة عليها ويلعب المال السياسي دورا خبيثا فيها، كما تلعب المذهبيات القذرة التي تسيطر على المشهد العربي دورا لن يتجاوزه التاريخ في مراحل صحوه إن أتت، وهي آتية، ولو بعد قرون بعيدة.

كتب بعض المفكرين العرب عما تتعرض له الأمة العربية، حدث ذلك، ولكن كل ما حدث لا يكفي، لا يكفي أبدا، المطلوب اليوم أن تتفرغ مراكز البحوث ومراكز الدراسات وصناعة القرار والمواطنون إلى تقديم رؤية حقيقية مجردة عن كل هوى لحالة الأمة العربية والطريق الذي تسير فيه، حتى لو كانت نتائج ذلك توجيه التهم إلى الساسة، وهم متهمون دون شك، وحتى لو كانت النتائج توجيه التهمة الأولى لرجال الدين، وهم متهمون إلى الرمق الأخير، لكن لا بد أن تمتلك البحوث قدرة قول الحقيقة بحرية لا سقف لها. ولا بد للمواطن العربي أيا كان أن يسأل السؤال الصعب «إلى أين نسير؟ إلى أين تسير الأمة وإلى أين نسير كأشخاص؟»

في كل يوم تسقط مدينة عربية ولا تعود رغم الوعود. عندما سقطت بغداد في يد الاحتلال الأمريكي في إبريل 2003 استبشر الكثير من العرب، يا للأسف والسخف، أن مرحلة جديدة سوف تشرق على العراق وأن الديمقراطية والحضارة قادمة لهذا البلد الذي شعّت حضارته على جميع الأمم والشعوب في مرحلة من مراحل التاريخ. رقص الكثيرون، لكن بكى آخرون استطاعوا قراءة المشهد، وعرفوا أن الديمقراطية لن تأتي على سطح دبابة أمريكية أبدا.. هل استطاع الذين رقصوا يوم 9 إبريل أن يخرجوا للحقيقة أم أنهم ما زالوا يصرون على أن الحقيقة بيدهم وحدهم لا غير وأن القافلة التي ساروا خلفها لا تدمر العراق.

أولئك المواطنون لم يكونوا وحدهم، كانت وراءهم دول دعمت سقوط بغداد، وتدعم الآن تدمير سوريا، تدميرها حضاريا وتدميرها ثقافيا، وتدميرها حياتيا وضرب نسيجها الاجتماعي الضارب في العراقة لمصالح طائفية ومذهبية ولمصالح غربية وصراعات لم تنته منذ مطلع القرن الماضي.

لم يكد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يكتمل حتى عاد مسلسل استكمال حكاية سقوط الدول العربية تحت شعار غربي حمل عنوان «الثورات العربية» وفي الحقيقة وجدت الثورات أرض خصبة تمثلت في الجهل وفي الظلم والديكتاتوريات والفساد العربي الذي عشش في الكثير من الدول العربية حتى بلغ الحلقوم.

ولكن لصالح من حدث كل ذلك؟ وما القوى التي وقفت وراء ما حدث. كان على الجماهير العربية أن تضع نقطة آخر السطر منذ اللحظة التي تدخل فيها حلف شمال الأطلسي لحسم ما يحدث في ليبيا. كانت تلك النقطة الحاسمة التي لا لبس فيها. رغم أن هناك أحداث كانت واضحة منذ بدايات أحداث ميدان التحرير في مصر.

وعودا إلى تحقيق سكوت أندرسون الذي وضع الغزو الأمريكي للعراق بداية حقيقية لتفكك العالم العربي وحاول من خلال سبع شخصيات استقراء ما حدث في كل من العراق وكردستان العراق وسوريا وليبيا ومصر وتونس وهي مراكز شهدت وما زالت تشهد أفضع مراحل تفكك الدولة العربية. هذا مفهوم جدا، ولكن ما يحدث في العالم العربي لا يمكن اختزاله في تبعات الغزو الأمريكي للعراق فقط، ولا يمكن اختزاله أيضا في الديكتاتوريات السائدة في تلك الدول فقط. ولكن ما يحدث اليوم في العالم العربي نتيجة أسباب كثيرة بعضها يعود عمره إلى أكثر من 1400 سنة، من مرحلة الخلافة الراشدة ومرحلة الدولتين الأموية والعباسية، والطريقة التي قرأ بها العرب دينهم ونصوصه القرآنية والرسولية.

والطريقة التي بنى بها العرب ثقافتهم نتيجة لذلك، بنوا بها حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم، الطريقة التي ربط بها العرب سياستهم بالدين، والأحلاف التي قامت بين رجال السلطة ورجال الدين وعلى إثرها كتبت الأحاديث وكتبت الأسانيد ووضع الكثير من الفقه.

وحتى نجيب اليوم على سؤال كبير من قبيل كيف تفكك العالم العربي لا نحتاج إلى قراءة مشهد الدول العربية منذ اللحظة التي سقطت فيها بغداد في يد الأمريكان ويد من جاء راكبا على ظهر الدبابة الأمريكية التي عبرت دجلة يوم 9 إبريل 2003. هذا سؤال يحتاج إلى استقراء ثقافة الأمة وتفكيرها خلال أربعة عشر قرنا، استقراء لحظات المجد ولحظات الانكسار. ولا يمكن أن يقوم بهذا كاتب واحد مهما كان، هذا عمل يحتاج مراكز بحثية ويحتاج موازنات ويحتاج سقف حرية عال توضع فيه النقاط على الحروب دون خوف من سيف سلطة أو من عمامة رجل دين.

ماذا تنتظر الدول ومراكزها البحثية، إن وجدت طبعا، لفتح هذا السؤال ولإعلان حالة طوارئ، فما جرى على العراق واليمن وليبيا وسوريا سيجري على غيرهم.. فالمشهد يكاد يكون نفس المشهد سواء كان من الداخل أو من الخارج. الدول العربية تتشابه إلى حد كبير من الداخل، والخطر الخارجي الذي يحاك لها مصدره واحد مع فوارق زمنية بسيطة جدا، لا غير.

متى نستشعر المأساة، متى نبحث عن أسباب سقوطنا في اختبار التاريخ والآن في اختبار الحياة. لا أقول أن الوقت حان، بل أقول أن الوقت فات كثيرا وكثيرا وإذا لم نمسك بآخر الخيط، رغم كل الأسف، فإن خارطة رسم العالم العربي جاهزة للطباعة وما يحدث هنا وهناك من السهل وضعه على طاولة واحدة وربطه بعضه ببعض لا نقرأ الصورة الكاملة.. ولكن ما يقرأ ومن ينتبه.