شرفات

«هدايا الوحدة» لمحمد خير.. الإبقاء على الزائل

12 ديسمبر 2016
12 ديسمبر 2016

طارق إمـام -

ليس الشعر بالضرورة تعقيباً غامضاً على الحياة، بل قد يكون بديلاً لها. بهذا المنطق سيكون خوض «القصائد» فعل الحياة الوحيد.. وبالمقابل، فإن خوض الحياة يغدو إيذانا بانتفاء الشعر. إنه موقف نقدي، يؤسس لمنطق شعري بامتياز، يجربه الشاعر المصري «محمد خير» في مجموعته الشعرية «هدايا الوحدة» (دار ميريت،القاهرة). ليس الشعر محاكاة للحياة ولا تمثيلا لها، بل هو نص مواز.. الشعر وجود لغوي بينما الحياة وجود سابق على اللغة ولاحق لها.

تواجهنا العبارة الأولى في المجموعة، والتي تكاد تكون تصديرا، وتوطئة لما هو قادم: «معظم تلك القصائد/‏ خضتها/‏ بدلاً من خوض الحياة».

انه «استرجاع» بالمنطق السردي، ولاحظ حضور المنطق الزماني، هنا في الشعر، الذي يتحقق عبر العلاقات المكانية بالأساس. ثم إن الذات تؤكد على ملامحها:« أنا مدين إذن للكسل/‏ بمعظم ما يكون تاريخي الحقيقي/‏ لأكن صريحا/‏ أنا مدين للتردد/‏ لكنني أكثر كسلا من خوض أي نقاش حول ذلك/‏ الكسل والموسيقى/‏ والوحدة طبعا/‏ تركيبة مجربة/‏ لإحاطة الآلام التافهة بغلاف من النبل/‏ وتجهيز قصائد/‏ لا يمكن حفظها».

نحن إذن أمام ذات تعري نفسها من اللحظة الأولى، تكشف عن منطقها. ذات كسولة، وحيدة، مترددة.. تجهز قصائد لا يمكن حفظها.. ربما لكي تتمكن من تعديلها، وفقا لطبيعة التردد، أو حتى محوها من الوجود. هي ذات ضد منطق «الحفظ»، أي ضد الخلود في تأويل ما.

هكذا تنطلق نصوص المجموعة، والأقرب لنص واحد موزع على واحد وعشرين مقطعاً، تعمل عمل اللغة من حركة وسكون، تشكل فيما بينها «النحو» العام للمجموعة الشعرية وتمنحها إيقاعها المتوتر الذي سأفصله فيما بعد. ترصد النصوص علاقة تقوم بالأساس على طرفين: الذات الشاعرة والآخر الأنثوي. الذات تتحد بالآخر في القصائد، باستدعائه، رغم أنها انفصلت عنه في الحياة. إنها تعيشه الآن في الشعر كبديل لحياتها معه في الحياة، وهو منطق متسق مع ما أسلفته عن تصدير الذات لنفسها باعتبارها «تخوض» القصائد، بينما تبقى «مترددة» إزاء خوض الحياة.

النصوص تتحقق عبر لغة شعرية تنحاز للغة التداولية. الدوال تشف عما تنطوي عليه من إحالات، الفضاء الدلالي يتحقق دون عناء ودون كثير جهد، وثمة اتكاء واضح على المفارقة الشعرية يحضر في مواضع عدة.

الذات الشاعرة تستحضر الآخر الأنثوي في مواضع عديدة كأنما تواجهه وجها لوجه ، عبر ضمير المخاطب. الأنثوي وفق هذا المنطق حاضر، ماثل لا يزال. لم تتحقق بعد مسافة الانفصال الآمنة التي تجعل منه «هو».. بل لا تزال الفرصة سانحة ليُخاطَب كـ«أنت». وعندما تتحدث الذات الشاعرة عن نفسها ك«انا» فإنها تتكئ على الضمير«نحن»، كأن حلولها في الآخر لا يزال قائما، كأن صوتها المفرد لايزال صوتهما معا.

الذاكرة هنا بطل، ولكن الذات الشاعرة تعمل بدأب، وربما بقسوة، لتنحية النوستالجيا اللصيقة بعمل الذاكرة، خاصة عندما يتعلق الموضوع بأمر الفقد.

الذات تعمد إلى إعادة تأسيس مشهدي، تربط فيه «ما كان» بما هو آني، متلمسة ما جرى على المشهد القديم من تحولات. كل مشهد إذن تستدعيه الذاكرة يعمل جنبا إلى جنب مع نفس المشهد في وجوده الآني، ومن هنا تتحقق المفارقة. « في لحظة خرقاء/‏استندنا سويا/‏ في لحظة خرقاء/‏استندنا سويا/‏إلى سور حديقة/‏ لم يكن الطلاء قد جف بعد/‏ مؤخرا مررت من هناك/‏ نظرت/‏ رأيت أثر جسدينا/‏ في الحديد/‏ الذي كان لامعا/‏ يومنا../‏ لا تسيئي الظن:/‏ أعادوا طلاء السور مرارا بعد تلك المرة/‏ لكنني/‏ مازلت أميز أثرنا/‏ رغم ذلك».

القصيدة، وهي تمثيل لعدد من القصائد، ليست مبنية على المشهد باعتباره ماضويا، بل تبدو في البداية كأنما تتملى مشهدا حاضرا.. خاصة وأن الفعل الماضي لا يحل باعتباره يسرد ماضيا انتهى. هكذا تستحضر الذات الشاعرة المشاهد كما لو كانت آنية، وربما هي حيلة أخرى، تؤكد بها الذات على أن ما فات لم ينته بعد، فضلا عن كونها حيلة جمالية تخفف من الثقل «العاطفي» للمشهد الغابر.

«الأثر» هو بالضبط الدال الذي يتوزع بمرادفاته وإحالاته الدلالية من ثم على نصوص هذه المجموعة. ومن هنا أيضا تتخلق المفارقة التي تجعل «الميتافيزيقي»، غير القابل للتصديق، يخرج من بين طيات الفيزيقي الماثل كتموضع. فكيف يظل أثر الجسدين قائما رغم إعادة الطلاء إلا وفق تصور ذاتي يعيد خلق الخارج وفق مخيلة الراصد؟

وفق هذه الآلية، يكون هذا الحضور الطاغي« للسرد» مبررا. العديد من القصائد تنطوي على مسار خطي تنتقل منه الذات من نقطة إلى نقطة تالية حتى تتحقق المفارقة في النهاية. المفارقة الزمنية تكأة سردية، لكن حضورها في الشعري لابد وأن يخلق هذا القدر من الانزياح عن «المجرد» الذي يسم الشعر. العلاقات «المكانية» على المستوى اللغوي، والتي تميز الشعر إجمالا، تأتي هنا ممتزجة بالعلاقات «الزمانية» التي تميز السرد.

متى تختفي الذات الشاعرة، وقرينها الأنثوي من صدارة القصائد؟ .. عندما يهيمن حضور الآخرين.

ترصدهم الذات كقطيع، في ضمير الجمع الذي لا يميز فردا عن الآخر. الآخرون، يحضرون في قصائد سكونية، تبعا لطبيعتهم، عكس النصوص الموارة التي توجد فيها الذات.هم، مرة: «يؤجلون حياتهم/‏ في سبيل الحذر/‏ يجلسون هادئين/‏ مندمجين في أحلام يقظتهم/‏ بينما/‏ تسرح في أرواحهم/‏ قرحة الانتظار»، ولاحظ أن عنوان هذا النص«دون ان ينتبهوا»، في إحالة لا لبس فيها لانتفاء الوعي بلحظة الوجود الملتبسة والشائكة. في موضع آخر، يحضر« شارع/‏ ليس فيه/‏ من لا يشارك/‏ في هذه الوحدة الجماعية». هنا ترصد الذات مفارقة وحدتها، كاختيار فردي، بوحدة الآخرين الجماعية، المجبولين عليها، وغير المدركين لكنهها، ما يؤكده، أيضا، عنوان:« بالتساوي». في مرة ثالثة، يظهرون من جديد،« سعداء/‏ لا حاجة بهم للأحلام/‏ يائسون/‏ لا طاقة بهم/‏ للأحلام/‏ حالمون/‏ يستفزون الحياة/‏ بحسن نواياهم/‏ ويبتذلون الحلم/‏ باعتياد الأمل». هم هذه المرة ليسوا فقط خارج سؤال الوعي، أو الاختيار، لكن أيضا خارج سؤال الحلم، أي خارج سؤال الانزياح عن المعطى الواقعي المجاني، ومجددا، يؤكد العنوان على الفضاء الدلالي عندما يؤكد:« مع ذلك تتشابه مصائرهم». علينا ألا ننسى أن «جمع المذكر» يعم على الذكر والأنثى، لكن، رغم ذلك، تحضر «الأخريات»، المناقضات للأنثى الفرد في المجموعة، عبر نص «هن»، واللائي يبدون مناقضات تماما لصورة الأنثى المفردة التي تتحقق علاقتها بالذات الشاعرة: «يستيقظن ظهرا/‏ بمزاج جيد/‏ وبقطيعة تامة/‏ ومريحة/‏ مع الماضي القريب/‏...ز/‏ يمنحن أنفسهن/‏ ابتسامات براقة ونقية/‏ ومطمئنة..»

هنا، في هذا الفصيل من النصوص الذي يعمق مأزق الذات، يختفي المنحى السردي، ويغيب منطق الحدث، ليأتي التعميق التجريدي، مع انتفاء التشخيص كبطل.

هنا يحضر السكون المقابل للحركة في القصائد التي تحضر فيها بشكل مباشر علاقة الذات والآخر الأنثوي. ومن هذين القطبين معا يتخلق الإيقاع الأشمل لـ«هدايا الوحدة» كنص واحد موزع على مقاطع صغيرة، أو كجملة لحنية رئيسية تغذيها جمل فرعية وتحاورها.

الذات الشاعرة تبدو، بالتوازي، مولعة، مرة بعد أخرى بإعادة تعريف« الأشياء» و«التصورات» لتكشف عن العجز الكامن فيها.

الأشياء مبدئياً حاضرة عبر أكثر من تموضع شعري، تارة بإعادة تعريفها « المزاليج/‏ لا تحمي الأبواب حقا/‏لا تمنع اللصوص/‏ فقط/‏ تحرس الطمأنينة/‏ المراوح/‏ لا تصنع الهواء/‏ تستخدم المتاح منه/‏ فعلا» وفي موضع آخر:« الكاميرات/‏ في أي حال/‏ بها بعض العمى/‏ عدساتها/‏ لا ترى/‏ غير ما نراه».

عبر هذه الطريقة في إعادة تملي الأشياء شعرياً، ينطلق صراع الأشياء بين بعضها البعض، في تموضع جديد، لتغيب في علاقة جدلية، يسمها الصراع والشد والجذب، حتى تصير بعض النصوص ساحات كاملة لعمل الأشياء والموجودات: «البراويز تسجن اللوحات/‏ المسامير تدمي البراويز/‏ الجدران تبتلع المسامير/‏ الطلاء يخفي الجدران/‏ الشمس تفتت الطلاء/‏ الليل يطفئ الشمس في مكان/‏ لتشتعل في مكان آخر/‏ وتسمح للرسامين/‏ باقتباس الضوء/‏ في لوحاتهم/‏ قبل أن يسجنها/‏ صانعوا البراويز».

إن هذا الحضور الكامل للأشياء، بل لأقول «الحضور الدرامي»، يحيل لبنية دائرية، لدورة وجودية تنتهي من حيث تبدأ، كأنما تمثل الذات الإنسانية باعتبارها انعكاسا مباشرا لها. الموجودات حاضرة طوال الوقت، دالة على أشد اللحظات الإنسانية تفردا وقسوة ـ وعلينا ألا نغفل أن علاقة الوحيد تتخلق بالأساس مع موجوداته في ظل انتفاء الحضور البشري المباشر، وهو ما يعيدنا أيضا، مجددا، لفكرة «الأثر» الإنساني فيما هو غير إنساني في ذاته ـ ووفق هذا المنطق، يتحقق وجود الأنثى «فوق أرفف المطبخ»، حيث«تركت كل هذه العلب/‏ وقد ألصقت فوقها/‏ أوراقك الصغيرة/‏ وخطك الكبير/‏ يشرح أسماء البهارات/‏ بوضوح وصبر» ، وكذلك، عندما تؤكد الذات الشاعرة في موضع آخر: « هكذا/‏ يمكنني أن أستمر/‏ في خداع/‏ السرير/‏ والتلفاز/‏ والشرفة/‏ فأقنعهم/‏ أن غيابك/‏ مسألة مؤقتة».

عبر الموجودات المادية التي تحيل للدلالي كعلامات سيميوطيقية، تحقق الذات رصدا موازيا للمفاهيم الإنسانية.. رصد «ذاتي» ينحرف بها عن قيم المواضعة: « الحذر/‏ ليس إلا حيلة رخيصة/‏ لخداع الأرق»، « الفقد/‏ ليس شرا كله/‏ ...../‏ هو من نواح أخرى/‏ طيف امرأة جديدة/‏ شبعت من هضم الذكريات/‏ واشتاقت/‏ لقطف الحب/‏ من أوله».

تكتشف الذات الشاعرة إذن تفاصيل ما مر، ما عبر، عبر أكثر من سياق تجريبي. إنها تعيد تعريف الموجودات والتصورات، تعيد التأسيس للآخرين، تجادل الفيزيقي لتعثر على الميتافيزيقي، وترصد المرئيات بصريا لتغوص في ماوراء الصورة بالبصيرة، تبحث عن الباقي في العابر الزائل، وعن نفسها في الآخر.

هكذا تعثر الذات، في النهاية، وبقدر من التسليم، على «شبح» الآخر الأنثوي، في تجسده الذي ظلت حريصة طوال الوقت على التشبث به، لتحضر السطور الشعرية النهائية، مؤسسة للـ«حقيقة»، هي أيضا عنوان النص الأخير، حقيقة غياب هذا الآخر وبقاء «أثره»، غياب جسده وحضور طيفه: « كلما لمست دفئك/‏ أرتجف/‏ فالأشباح/‏ تبقى مخيفة/‏ حتى لو كانت لأشخاص نحبهم».

إن رحلة«هدايا الوحدة» تبدو أقرب لرحلة معرفية، لا تخلو رغم كل شيء من حس تطهري ـ ولماذا ننكر ذلك على الشعر؟؟ وهي رحلة تبدأ من «الكسل» لتقف في النهاية على أعتاب « الحقيقة»، محققة شعريتها، ومؤسسة لذاتها كمستقبلة لهدايا، لكنها بالمقابل، منتجة لوحدة تترجم خياراً صعباً هو الحرية.