إشراقات

النسل

08 ديسمبر 2016
08 ديسمبر 2016

حمود بن عامر الصوافي -

«لا بد أن يرافق الإعلامي وعي مبكر وذلك لأن دوره شريف، وأن أي كلمة يتفوه بها من شأنها أن تغير العالم إلى الأحسن أو الأسوأ فكم من كلمة أودت بصاحبها إلى مهاوي الردى، وكم من كلمة أنقذت صاحبها وأسهمت في رتق آلام، وتضميد جراح».

الإعلام وسيلة ناجحة لتمرير الآراء الجيدة، والاقتراحات الثمينة، والأفكار الراقية، وما زال الشرفاء من الأمة يبذلون قصارى جهدهم لمقارعة الظلم والطغيان والفساد والسرقات عن طريق الإعلام بمختلف وسائله وطرائقه وشرائطه السمعية والبصرية.

ولا ريب أن الإعلام قد نال هذه الأهمية لما له من قدرة فائقة على تغيير اتجاهات الشعوب وثقافتها وبرمجتها لذلك حري بالإعلاميين الشرفاء أن يدركوا ضرورة التحرك في كل ما هو نافع وجاد، ويستمرئوا في أعمالهم الحسنة المبتكرة الجذابة لأن مهنة الإعلامي مسؤولية عظمى فيما يقدمه من برامج ويبثه من أسرار وعلوم وفنون يصله أجرها إن كانت خيّرة وشرها إن كانت شريرة.

فلا بد أن يرافق الإعلامي وعي مبكر وذلك لأن دوره شريف، وأن أي كلمة يتفوه بها من شأنها أن تغير العالم إلى الأحسن أو الأسوأ فكم من كلمة أودت بصاحبها إلى مهاوي الردى، وكم من كلمة أنقذت صاحبها وأسهمت في رتق آلام، وتضميد جراح.

وقد نبه الإسلام على ضرورة الانتقاء في الكلام والتأني قبل نشر الأخبار، وحذر من الأراجيف والإشاعات وأوجب الجزاء الأشد في الدنيا والآخرة على كل ناشر لإشاعة مختلقة أو قاذف لامرأة عفيفة، ففي الدنيا يُلزم بالإتيان بأربعة شهداء وإلاّ عدّ فاسقا يتوجب عليه الجلد، وكاذبا لا تقبل شهادته، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وأما في الآخرة فينتظره الطرد من رحمة الله، والعذاب العظيم إن لم يتب ويتراجع عن غيه، ويعود إلى بصيرته، قال تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ).

لقد أحكم الله تعالى النظام الاجتماعي، وأحاطه بمزيد من السياجات التي تمنع انحطاطه وانحلاله، فمنع نشر الفواحش علنا، وأمعن في سد أبواب الشر من منبتها، فنهى عن التقول دون شهود وعدّ فاعل ذلك قاذفا ولو رأى بأم عينيه الفاحشة فلا يجوز له أن يذيعها أمام الناس أو يشي بذلك بين يدي الحاكم لأن الإسلام لا يريد أن يبني أحكامه المرتبطة بالدماء والأعراض على الظنون والأوهام خوفا من ضياع العلاقات الأسرية والاجتماعية وظلم الآخرين وانتشار الفاحشة بين الناس وإشاعتها، قال تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

فلا تقولن: لقد رأيته بعيني بل تحتاج إلى عيون ثلاثة أخرى مع عينك لتشي بالخبر إلى الحاكم لأن أمر الأعراض خط أحمر في الإسلام لا يجوز الولوج إليه دون تأكد ويقين لتبقى الأسرار في البيوت لا تنبش وأمام الملأ لا تنشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل الرجل في الليل عملاً، ثم يصبح، وقد ستره ربه، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا، وكذا، وقد بات يستره ربه، ويبيت في ستر ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه».

وذلك لأن المجاهر يكشف المستور، ويشجع على الفواحش والزنا في المجتمعات فكان استحقاقه للعقاب أكثر إيلاما وأشد جرما؛ لأنه لم يكتف بالمعصية بل أسهم في نشرها وإذاعتها أمام الملأ.

وقد أنعمت الشريعة الغراء في الحفاظ على أفرادها بكثير من المبادئ والقوانين التي تضمن استمرار وشائج القربى والتعاون بين المجتمعات وتبعد عنهم شبح التصدع والتشرذم والتفرق فأعلن الإسلام أن النطق بالشهادتين كفيل بأن يجعل الإنسان في مأمن من الاعتداء على نفسه أو عرضه أو ماله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحَقِّها وحسابهم على الله عَزَّ وجَلّ).

لذلك يعتبر حفظ النسل من أولويات الإسلام، ومن اهتماماته فقد أولاه عناية ووضع فيه من السياجات ما يضمن الحفاظ عليه منذ أول ميلاد للإنسان وإلى نهاية حياته، فحرم الزنا؛ لأنه شر محض، يقع ضرره على الزاني والزانية والأولاد الذين قد يأتون من أثر هذه الفاحشة والمجتمع، فتختلط الأنساب وتتشابك الأحساب فلا يعرف هذا من ذاك ولا ذاك من هذا لذلك حُرم، وقُرر أن الزاني لا يستحق أن ينكح إلا مزنية تشبهه لشناعة جرمه ووقاحته وضرره البالغ، قال تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

كما حرم الإسلام الاقتراب من الزنا فضلاً عن الإيقاع فيه، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا).

وأمر المسلم بغض البصر وحرم عليه الخلوة بالمرأة الأجنبية والتميع في محادثتها، سدا لذرائع الفتنة وبعدا عن الولوج إلى الحرام والفاحشة.

وقد جعل الإسلام أطرا أخرى لحفظ النسل من الضياع والإهمال فجعل حق الرجل والمرأة في اختيار شريك حياته، وفي الانفصال، ولم يلزم الأول للثاني أو الثاني للأول بل الحرية في الإسلام ضمنت الحقوق، وجعلت الرضا هي شريعة المتعاقدين فلا يصح لزوج أن يظلم زوجه، ولا العكس ولا أن تُغصب المرأة على زوج لا ترغب فيه حفاظا على وحدة الأسرة، ولم الشمل وإنشاء المجتمع الصغير على التراضي والقبول.

كما نهى الإسلام عن الغش عند الإقدام على الزواج، فلم يجوّز لمرأة أن تخفي مرضها العضال عن زوجها والعكس كذلك أيضا؛ لأن مثل هذا الغش لا يقتصر ضرره على الطرف الآخر بل يعم الأولاد والأسرة، ونهى كذلك الإسلام الزوج أن يقصّر في نفقته على أولاده وأسرته لكي لا يحملهم التقصير على التشرد والضياع والفساد أو قتل الأولاد في الأرحام بحجة قلة ما في اليد قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا)، فقد راعى الإسلام الكل ورتب الحقوق والواجبات على الجميع حماية للنسل من الضياع كما أنه حرم قتل الأولاد في بطون أمهاتهم هروبا من عار الزنا أو تخوفهم من إنجاب الأنثى قال تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

ولعل أكبر سياج أقامه الإسلام لحماية النشء وحفظه من العبثية والفوضى مشروعية الزواج فقد حث عليه ورغب فيه، وأباح التعدد قال تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)، وقد جعل العدل شرطا للتعدد لكي لا يتأثر المجتمع أو يقع ظلم على إحدى نساء الرجل بل الإسلام لم يشرع شيئا إلا وجعل فيه من الوقاية ما يبعد عنه وقوع الضرر على الطرف الآخر، وقد حث نبينا -صلى الله عليه وسلم- الشباب على التبكير في الزواج خوفا من الزيغ وتكثيرا لسواد الأمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، فقد أرشد إلى دواء الصوم لمن اشتد عليه العنت ولم يقدر على تكاليف الزواج فالصوم له وقاية ووجاء من الوقوع في المعاصي والآثام، وحث الإسلام أيضا على الإكثار من النسل فقد ذكره الله تعالى في إطار الامتنان على بني إسرائيل فقد كانوا ضعفاء قلة مشردين فلما منَّ الله عليهم بالخير كثر خيرهم وازداد عددهم قال تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

وشرح الإسلام أيضا آداب الاستئذان في المنزل حفاظا على الأولاد وتربية لهم على سلوك القيم النبيل والأخلاق السامية الأصيلة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). ونهى كذلك عن كل ما يشين الزواج أو يبعد الإنسان عن الفطرة السوية فحرم فاحشة قوم لوط لأن الفطرة السوية اقتضت أن تكون العلاقة الحميمية مع الزواج المقدس وما عداه من وسائل لا تعدو إلا أن تكون شاذة لا ينتج عنها إلا ضياع النسل والانحلال الخلقي في المجتمعات.