إشراقات

النفس

08 ديسمبر 2016
08 ديسمبر 2016

د. صالح بن سعيد الحوسني -

«وسائل الإعلام المختلفة يمكن أن تقوم بدور رئيس في بيان ما يقيم هذه النفس البشرية من الغذاء النافع المفيد؛ ببيان أشكال تلك المواد وما أودعه الله تعالى من خصائص ومزايا، وكيف يمكن للجسد أن ينتفع من تلك المواد».

كانت وسائل الإعلام في الماضي متواضعة ومحدودة التأثير، ومع بداية القرن العشرين الميلادي برزت في الساحة وسائل جديدة ومبتكرة ولم تكن معهودة في الماضي، وهي ذات تأثير كبير جدًا على مختلف فئات الناس، وتوجيه أفكارهم، وتغيير قناعاتهم، وتحديد اتجاهاتهم، بداية من الصحف والمجلات؛ وما تبع ذلك من اختراع الهاتف وإحداثه ثورة هائلة في التواصل البشري، وما تلا ذلك من اختراع التلفاز أو ما يسمى بالرائي، ثم بتطور الزمن ظهرت شبكة المعلومات، والأجهزة الذكية والأقمار الاصطناعية وغيرها من الوسائل المذهلة والقوية التأثير، والتي قرّبت العالم، وأصبح الناس على علم واطلاع بما يحدث في أقصى بقاع الأرض في نفس اللحظة، وأمكن للجميع أن يتواصلوا مع بعضهم البعض، وأن يعرضوا أفكارهم، وأن يؤثروا بقناعاتهم على المستوى العام والخاص.

ومع هذا التطور الكبير، وانشغال الناس بوسائل التواصل، وانجذاب الناس إلى وسائل الإعلام المختلفة، فإنه ولا بد وأن يكون لهذه الوسائل دور فعال ومؤثر لخدمة الأغراض الشرعية المهمة؛ خاصة مع استغلال الكثيرين لهذه الوسائل الاستغلال الخاطئ الذي يفسد العقول، ويدمر القيم، ويأتي على الأخلاق بالهدم والضياع.

ومن المعلوم أن الإسلام جاء بمراعاة المقاصد الشرعية التي هي من الضرورات الخمس المهمة، وهي حفظ الدين من أي مؤثرات مختلفة تذهب به، وتتعارض مع ما يلزم الإنسان في صلته بربه، وحفظ النفس البشرية من أي خطر يحيط بها، وحفظ العقل من أي مؤثر يغيره أو يفسده، فحرم الإسلام المسكرات والمفترات العقلية لتأثيرها على العقل، ومن هذه المقاصد حفظ النسل، فمنع الإسلام العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج الشرعي، وضبط علاقة الرجل بالمرأة بمنظومة من القيم والأخلاق والضوابط التي من شأنها أن تعين الإنسان على أداء رسالته التي كُلف بها، ومن المقاصد الشرعية حفظ المال؛ فهو قوام الحياة، ومن الطبيعي أن يحافظ عليه الإنسان بتجنب إضاعته وتبذيره وصرفه في الوجوه المحرمة التي نهى الشارع عن صرف المال فيها، وفي المقابل نهى عن التقتير والبخل والشح الذي يجعل الإنسان عبدًا لهذا المال، وفرض جملة من التشريعات الربانية في التعامل مع صنوف الأموال، وطرق تثميرها بالوسائل المشروعة.

وإن أردنا أن نقف مع مقصد كبير من المقاصد الشرعية، وهو حفظ النفس لنضع بعض المحددات لتسخير وسائل الإعلام في حفظ هذا المقصد الكبير فإن هناك جوانب كبيرة كان من المفيد أن تُستغل فيها وسائل الإعلام لبيان عظمة الإسلام في احترام النفس البشرية وحفظها وصيانتها وعدم تعريضها للخطر، وتوجيه الجماهير من المسلمين وغير المسلمين إلى هذا الجانب المهم، خاصة إن علمنا أن بعض النظرات المتشددة تنظر إلى الإسلام على أنه دين عنيف وهمجي، ولا يقيم للنفس البشرية احترامًا وتقديرًا، والأمر يزداد خطورة عند انتشار بعض الفتاوى التكفيرية التي تبيح من غير وجه حق سفك الدماء وهتك الأعراض، وهو ما يُشاهد جليًا في عصرنا الحاضر من قيام بعض القنوات الإعلامية بالتسويق والترويج لبعض الأفكار وكأن الحق المطلق معها، بل وكأنها تملك مفاتيح الجنة؛ تدخل فيها من تشاء، وتمنع من تشاء، وهو أمر فيه تطرف شديد، وخروج عما شرعه الله تعالى.

وعلى هذا فإن وسائل الإعلام المختلفة يمكن أن تقوم بدور رئيس في بيان ما يقيم هذه النفس البشرية من الغذاء النافع المفيد؛ ببيان أشكال تلك المواد، وما أودعه الله تعالى من خصائص ومزايا، وكيف يمكن للجسد أن ينتفع من تلك المواد، وفي المقابل فإن هناك جملة من المواد قد تصل إلى متناول اليد ويحسبها الواحد من جنس الأطعمة المفيدة النافعة فإذا هي مضرة بصحة الإنسان وجسده، وما أجمل أن تعمل البرامج، وتنشر الدراسات المصورة، وتعرض للجمهور لينتفع بها لتصنع بقدرة الله تعالى أجسادًا قويةً، قادرة على القيام بكل أعباء الحياة بقوة واقتدار.

ويمكن لوسائل الإعلام الحديثة أن تعرض للعديد من مسببات الأمراض المختلفة، وما يمكن أن تؤدي إليه من أثار على الصحة، وكيف يمكن أن نتقي تلك الأسباب، ونقي أنفسنا شرها، بجانب ذلك فإن بعض الأمراض يمكن الوقاية منها بتوقي أسبابها المختلفة، وكثيرًا ما يكون الوعي الصحي له أثره الكبير في إبعاد مسببات الأمراض المختلفة فالحكمة المشهورة تقول: درهم وقاية خير من قنطار علاج.

ويتوسع مفهوم حفظ النفس في الإسلام ليشمل حرمة تعريض هذه النفس لكل ما يسبب لها التلف، أو يوقعها في الضرر فقد نهي المولى جل وعلا عن قتل النفس فقال: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)، وهناك جملة وافرة من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- تحذر من هذه الجريمة النكراء، وعليه فإن لوسائل الإعلام المتنوعة دورا كبيرا في بيان خطورة الإقدام على الانتحار، وما يستتبع ذلك من آثار ومآل خطير ينتظر الذي يتعرض لنفسه لإزهاقها وقتلها.

ومما ينبغي أن تتحد فيه الجهود، وتتسارع فيه الخطى التكثيف الإعلامي لبيان خطورة الإقدام على التعدي على قتل الناس من غير وجه حق، وهو وللأسف الشديد أمر شاع في هذا العصر، فحصل به سفك الدماء البريئة والتعدي على الضعفاء والمساكين والأطفال والنساء بقتلهم من دون أي رحمة أو شفقة، فتحركت الفتن، وهُيجت العداوات والنعرات المختلفة، وسوغ علماء السوء بفتاويهم المضللة قتل الناس واضطهادهم، وهنا فإنه يتحتم على القائمين على وسائل الإعلام أن يبصروا الناس بحرمة الدماء، وخطورة التعدي على الموحدين أو أموالهم أو أعراضهم، فالدماء في الإسلام مصانة ولا يجوز التعدي عليها، ومحاولة رأب الصدع والخلاف بين المختلفين، وبحث طرق العلاج، وكشف المعضلات المختلفة.

ولم يقف الإسلام بمنع قتل الناس من غير وجه حق وإنما تعدي ذلك لكل ما يشكل الرعب أو الخوف الذي قد يقوم به الشخص لأخيه فيخوفه ولو من باب المزاح والهزل، فبمجرد أن تعرض الآخرين للرعب أو الخوف يكون بذلك الشخص قد تجاوز المسموح ودخل في المحظور الشرعي والخطأ، وبالتالي فوسائل الإعلام دورها أن تبين حرمة هذا الأمر ومغبته الخطيرة بجانب أنه فعل محرم شرعًا.

وفوق كل هذا فإن العالم الغربي متعطش لقيم الإسلام العادلة وقيمه السمحة، ومبادئه الأصيلة، وقد تسربت إليهم بطريقة أو بأخرى جملة من المفاهيم المغلوطة عن الإسلام، وأنه دين عنصري قهري عنيف، ولذا لا بد لوسائل الإعلام أن تتصدى لكل هذه الوسائل المضللة والتي يقف خلفها كثير من الخبثاء وذلك بتوضيح الإسلام الحقيقي ورحمته بالبشرية ومحافظته على الأنفس، وحرمة تعريضها لأي سوء أو ضرر.