عمان اليوم

الأبعاد القانونية لإثارة النعرات المذهبية والطائفية

04 ديسمبر 2016
04 ديسمبر 2016

حسين بن علي الهلالي  -

المدعي العام -

لا ريب أن الدول قديماً وحديثاً تسعى لتعزيز السلم و التعايش و التسامح بين أبنائها، والبعد كل البعد عن ما يعرض النسيج المجتمعي واللحمة الوطنية للخلاف والصراع، و ترويج ما يثير طائفة ضد أخرى أو قبيلة على أخرى، حتى تصل إلى بناء دولة مدنية يحكمها القانون ويسودها العدل بين مختلف الفئات والطوائف في الوطن، ولتحقيق تلك الغاية النبيلة جعلت من القوانين الجزائية والقوانين ذات الصلة إحدى وسائل تحقيقها، وذلك بتجريم كل ما من شأنه إثارة النعرات الطائفية والمذهبية وبأي وسيلة كانت.

ولجسامة جريمة ترويج كل ما يثير النعرات الدينية أو المذهبية فقد أدرجها المشرع العماني في قانون الجزاء عند صدوره في عام 1974م، ضمن الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي و عاقب مرتكبها بالسجن لمدة تصل إلى عشر سنوات استناداً إلى نص المادة (130) مكرر.

وتكمن أهمية تجريم هذه الأفعال كونها آفة تؤرق الدول فبوجودها يتزعزع الأمن ويضطرب، وتهتز أركان الدول ويغيب تطبيق القانون وتصبح الحياة فوضى عارمة، فكم من الدول التي دمرتها الطائفية و كم هي الأمم التي خربت أركانها ولم يصلح حال أفرادها بسبب النعرات الدينية و التعصب للرأي.

وجاء الدين الإسلامي الحنيف راسماً تعاليمه السمحة على أساس المودة والمسارعة في فعل الخيرات والحض على تأليف القلوب وتوحيد الصف والبعد عن الفتن، وقال المولى جل في علاه في محكم كتابه العزيز « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا»  صدق الله العظيم ـ آل عمران- الآية (103)،كما حذر نبينا الكريم من الفتنة في أحاديث كثيرة منها قوله: ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، وأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء) . (رواه مسلم).

وما جاء به قانون الجزاء العماني منذ بزوغ فجر النهضة المباركة، كان ترجمة لنهج قائدٍ حكيم جعل من السلام و الأمان منهج حياة ودليل نجاة من الفتن و المحن، و ما أدل على ذلك مما جاء في خطاب جلالته - أيده الله - في العيد الوطني الرابع والعشرين حين قال: ( إن التطرف مهما كانت مسمياته والتعصب مهما كانت أشكاله والتحزب مهما كانت دوافعه ومنطلقاته نباتات كريهة سامة ترفضها التربة العمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيباً ولا تقبل أبداً أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق).

كما أن الصبغة الحضارية في التعايش وسمة التسامح والإخاء بين أبناء الوطن جعلت منهجه واضح المعالم بأنه لا مكان لبذور الطائفية والمذهبية بين أبناء البلاد، ولا غرو أن الحفاظ على هذه السمات التي تميز بها المجتمع العماني أصبحت محط إشادة شعوب ودول العالم وهذا ما أشار إليه سماحة الشيخ المفتي العام للسلطنة حين قال: ((إن مما نحمد الله تعالى عليه أن نرى وطننا العزيز (عمان) في منأى عن هياج زوابع تلك الفتن وفي مأمن من لهيب سعيرها المحرق، فقد توارث هذا الشعب الأبي التسامح والتآخي والترابط والتعاون على الخير أبّاً عن جد، وهذه صبغته الحضارية التي تميّز بها فاغتبطته الشعوب وتطلع إلى خصائصه العقلاء وأكبره الحكماء)).

ولقد دأب المغرضون الذين يستغلون الطائفية للحصول على مكاسب سياسية إلى اتباع طرق شتى في سبيل إذكاء روح الطائفية والمذهبية بين أبناء الدول، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: ((بث وقائع يسبغ عليها الطابع التاريخي ويتعمد نشرها في أوقات ومناسبات معينة لتحريض طائفة على أخرى أو معتنقي مذهب على مذهب آخر، وكذلك ترويج قضايا الخلافات المذهبية التي تؤدي إلى الفرقة والشقاق، وتشعل التلاسن وما يعقبه من أفعال، إضافة إلى بث ونشر أفكار مغلوطة مؤداها التطرف الفكري والديني والذي يتبعه العنف والكراهية، واستخدام وسائل التقنية الحديثة للترويج لأفكار غير محمودة، أو الاستهزاء أو ازدراء المذاهب والأديان، وإرسال مقاطع وتسجيلات (مقروءة، مسموعة) يدس في ثناياها بذور الطائفية والمذهبية)).

ومما نحمد الله تعالى عليه أنه من العوامل التي ساعدت المجتمع العماني على تجنب الكثير من هذه الفتن هي: (وعي المجتمع وسيادة ثقافة الوئام و المحبة بين أبنائه، وتطبيق النهج الإسلامي في الكف عن الدعوة للشقاق والخلافات، ومبدأ المساواة الذي أرساه جلالته ـ أيده الله ـ وأكد عليه في النظام الأساسي للدولة)، وقد رسخت جميع المبادئ المذكورة في القوانين السارية في البلاد وعلى رأسها النظام الأساسي للدولة.

فعلى المجتمع أن ينمي هذا الإدراك المستنير، وأن لا يتزعزع أمام ملمات العصر، والحذر كل الحذر أن يتأثر المواطن بدعايات المغرضين أو يستجيب لأصوات المضللين، لأن الاقتراب من هذه الأفعال يتبعه إجراءات قانونية، من تحقيق، ومحاكمات، وعقوبات، وعليهم التنبه بعدم الانسياق وراء تلك النداءات التي تحمل في طياتها توجهات معادية للوطن أو للدول الأخرى، أو القبائل، أو الطوائف، وحسناً فعل المشرّع العماني إذ جعل عقوبة مرتكب جريمة (ترويج ما يثير النعرات الدينية والمذهبية أو التحريض على التمييز أو العداوة بين سكان البلاد) السجن عشر سنوات، وغلظ العقوبة إلى السجن المطلق لو نتج عن هذه الجريمة إثارة حروب أهلية والعياذ بالله.

واتساقاً مع ذلك كله أصدر الادعاء العام في يوم الأحد 7 محرم 1437هـ، الموافق 9 أكتوبر 2016م، تعميماً قضائياً رقم: (22/‏‏2016م) قضى من خلاله بالتأكيد على جميع أعضاء الادعاء العام بضرورة اتخاذ الإجراءات القانونية الحازمة في مثل هذا النوع من القضايا نظراً لأهميتها، تحقيقا للغاية التي ابتغاها المشرع من وراء تجريم تلك الأفعال المشينة، والله نسأل أن يديم نعمة الأمن والوئام على بلادنا العزيزة عمان وأن يمد جلالته بالصحة والعافية إنه سميع مجيب الدعاء.

والله ولي التوفيق،،