أفكار وآراء

العلاقة بين الجمهور و«النخبة» .. إلى أين؟

04 ديسمبر 2016
04 ديسمبر 2016

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يضع المكون الاجتماعي المؤلف من («الجمهور» و«النخبة») نفسه كأهم مقياس في الحكم على مختلف التفاعلات التي تحدث  في أي مجتمع من المجتمعات، مع التسليم المطلق، أن أي مجتمع إنساني في أي بقعة من بقاع الأرض لن يخلو من ركني العملية السياسية والاجتماعية والثقافية، على حد سواء من صورة («الجمهور» و«النخبة»)، وعلى امتداد التاريخ.

كما نعيش اليوم، وكما نقرأ في تاريخ الأمم، وكما سمعنا من آبائنا ومنظرينا أن هذا المكون يضع ثقله بقوة التأثير والإرادة في المجتمع، وتكون له كلمة الفصل في كثير من القضايا المهمة وغير المهمة، القريبة منها والبعيدة، قد يكون في حالات كثيرة هناك نوع من التوافق بين الاثنين، ويحدث أحيانا في حالات أخرى، نوعا من التصادم، فـ«النخبة» كما هو معلوم بالضرورة تركن أكثر إلى الاقتراب من قرار صاحب السياسة، بينما الـ«جمهور» يظل دائما هو قائد الركب نحو التطلع إلى بناءات جديدة في المجتمع بغض النظر إن كان ذلك يتوافق مع التوجه العام، وفق الخطط والبرامج المرصودة، أم لا، أو تبني مواقف مضادة للقرار الرسمي، وذلك للتماس الشديد بينه وبين التطبيق فيما يستحدث من منافذ ونوافذ يرى فيها صاحب القرار أنها ما ينبغي أن تكون في ظروف ما تفرض نفسها كاستحقاقات لأي مرحلة، وقد يرى الجمهور في المقابل، أن في ذلك تكلف يحمله الكثير المعاناة.

هذه هي الصورة العامة، كما تبدو في توازناتها المختلفة، وفي مظانها المعروفة، وإن كانت مرحلة الستينيات ومطلع السبعينيات، في التجربة العربية، على سبيل المثال، سجلت مواقف مضيئة للنخب العربية إبان مقاومتها للاستعمار، حيث قادت الجماهير نحو الحراك الشعبي للمطالبة بحقوقها وأرضها، وكون الاثنين قوى شعبية أقلقت رؤوس الاستعمار، وأرضخته لمطالبها وتحرير أراضيها، وكان لها ما أرادت، وبهذا كسبت رهان الاستحقاق للبقاء في الذاكرة الجمعية وحجزت لنفسها مكانا في هذه الذاكرة حتى عهد قريب، اليوم لم تعد الصورة كما كانت، حيث انسلت الـ«نخبة» من المشهد، ربما لكثرة النخب وتعددها، واختلاف اختصاصاتها ومشاربها، وربما لدخولها في البيئات المختلفة لصنع القرار التنموي، فانشغلت بالالتزامات الرسمية اكثر من نظرتها إلى احتياجات الجمهور العريض، الذي لا يزال حتى اليوم في كثير من الدول العربية - على سبيل المثال - يطالب بحقوق أساسية لم تتحقق، ولذا وجدها الجمهور فرصة لإسقاط الصورة الذهنية لمفهوم الـ«نخبة» لأنه أيضا صدم بالفوقية والحياة المرفهة التي أصبحت عليها بعض النخب، حيث تنظر إلى الجمهور العريض من عل، أو كما يورد الكاتب والروائي تركي الحمد في كتابه (الثقافة العربية في عصر العولمة) النص التالي: «يمكن القول إن مثقف اليوم ومفكره ما زال يعتقد انه وصي على الحقيقة المطلقة حين تعامله مع العامة، التي يجب أن يكون وصيا عليها وإلا ضلت. يتساوى في ذلك الذي يرفع راية السلفية علنا، أو الذي يرفع راية مغايرة تماما، طالما أن الخلفية التي تحدد آليات العقل وعمله وحدة. وسواء تحدث المثقف العربي عن «الشعب» أو «الجماهير» أو «المواطنين» أو «المجتمع المدني». - انتهى النص - ولذلك قيم الجمهور مفهوم الـ«نخبة» على أنه ترف، ولم يعد ضرورة مجتمعية، كما كان في السابق، ولعله مما ساعد أيضا على انزواء الـ«نخبة» عن المشهد الاجتماعي هو التنظيم الحديث للمجتمع، وذلك من خلال مؤسسات كثيرة أوكل إليها الكثير من المهام والمسؤوليات وفق أسس حديثة قائمة على برامج وخطط، ليس شرطا أن تتبناها الجهات الرسمية، وإنما ترك ذلك لما يسمى «النخب»، وهي النخب التي تتولى إدارة هذه المؤسسات وفق اختيارات الجمهور وانتقائياته، ومن أمثلة ذلك المجالس البرلمانية، والمجالس البلدية، ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة، وغيرها من المؤسسات التي تتولاها النخب، كما هو المفهوم السابق لدور هذه النخب، ومساعدتها للجمهور لتحقيق مطالبه، وآماله وطموحاته.

جاءت أحداث عام 2011م لتضع مسمارا في نعش الـ«نخب»، حيث سقطت رايتها بشكل أو بآخر، وذلك من أثر تولي الجمهور قيادة الحراك الشعبي في عدد من الدول التي شهدت هذه الأحداث، وكان ذلك آخر نعش يزف لمفهوم النخب، وهناك عوامل كثيرة برزت كمحرك للشعوب، يأتي في مقدمتها وسائل الإعلام البديل الذي قيّمه البعض، على أنه البديل عن النخب في المجتمع، وليس فقط البديل بل هو المحرك الأساسي في الحراك الشعبي - حسب وجهة نظرهم - لعدم القدرة على السيطرة عليها، وجمهورها أكثر من أن يحاصر في بقعة معينة، أو يلزم وفق محددات معينة أيضا، بل هي وسائل تسبح في هذا الفضاء الرحب، لا أول لها ولا آخر، وهي اليوم تتسيد المشهد بلا منازع، وتفرض أجندتها على مستويات عدة بما يتوافق ومطالب الجماهير العريضة، دون الوصول إلى الصدام المباشر، كما كان في السابق إبان ما يسمى بدور الـ«نخبة» وتأثيرها المباشر على صنع القرار، ولذلك انزوت الـ«نخبة» في هذه الأحداث ولم يعد لها تأثير مباشر على مسارات الحراك، ومن كانت له مبادرات خجولة، لم يجد نفسه كثيرا، حيث يسبقه دائما الإعلام البديل كسرعة البرق في إيصال المعلومات وانتشارها، وسرعة تأثيرها على الجمهور العريض، ولذلك يفخر جمهور اليوم بأنه المساهم المباشر في صنع القرار الوطني، وحق له ذلك، فـ«الأمة» لن تجتمع على ضلالة، بعد أن اندست الـ«نخبة» تحت عباءة المصالح الخاصة، وتضاربها، وهذا ما يسجله الواقع اليوم في كثير من التجارب التنموية، على الرغم من وجود المؤسسات المختلفة التي سبق ذكرها، وبالتالي؛ فمن وجهة نظر أخرى، ترى أن الـ«نخبة» أضرت أيضا بالعمليات التنموية كثيرا، في الوقت الذي يفترض أن تلعب دورا محوريا في الإصلاح والصلاح، وليس العكس، حتى وفق التنظيم الذي رسمت على أساسه مختلف المؤسسات التي سلمت إلى هذه النخب، ومن هنا تتجدد العلاقة الضدية القائمة بين الجمهور وبين ما يسمى بـ«النخب»، لأن الجمهور في المقابل لم يعد ذلك الجمهور في زمن الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، حيث تسوده عقلية القطيع، الجمهور اليوم واع إلى درجة كبيرة، وله باع طويل في المشروع الوطني الكبير، وذلك من خلال آرائه ورؤاه التي يساهم بها في المسارات التنموية المختلفة، والدليل على ذلك أكثر حرصه الكبير على أن تكون التنمية لؤلؤة مضيئة مشرقة، ولا يقبل أي تعثر لها إلا في الأوقات الحرجة، والظروف الاستثنائية التي تخرج عن قدرة الإنسان وحوله، أما بخلاف ذلك فأي تعثر غير مقبول، ويستلزم التوضيح والبيان في حالة حدوث ذلك.

هنا مقولة جميلة أيضا للأستاذ هشام علي وكيل وزارة الثقافة في اليمن، استشفها من نص الحوار الذي أجرته معه مجلة «دبي الثقافية» حول (المأزق السياسي للثقافة) والمنشور في العدد (118) لشهر مارس 2015م، يقول فيه: «لقد أدى المثقفون في الغرب أدوارهم، ثم تحولوا إلى أساتذة في الجامعات ومستشارين في مؤسسات كبرى، نحن انتقلنا معهم إلى هذا الدور في الوقت الذي لم يؤد المثقفون لدينا أدوارهم كمثقفين ملتزمين قيم النهضة ملتحمين مع تطلعات المجتمع، قبل أن يتحولوا إلى خبراء يعملون لصالح السياسة وغيرها».

في الختام أرى هنا سؤالين لا بد من طرحهما، السؤال الأول: إلى أي حد ستراهن النخبة على سلطتها الجهوية في المحافظة على مكانتها؟ والسؤال الثاني: ما مدى مساهمة النخبة في مساعدة الحكومة في إيصال رسالتها إلى الجمهور؟ مع الأخذ في الاعتبار تعدد الوسائل اليوم، وكثرة الأنشطة والبرامج غير الموقوفة على شخص بعينه، وإنما المسألة مفتوحة على مصراعيها، لا أريد أن أسقط السؤالين على واقع جغرافي بعينه، وإنما اطرح أسئلة للحوار لأستنطق بها من يشتغل على هذا الجانب، أو له رؤية مختلفة فيه.