أعمدة

مكر التاريخ.. مصر وأمريكا 2012

01 ديسمبر 2016
01 ديسمبر 2016

يوسف القعيد -

هذه صفحة من أوراقي القديمة، تعود إلى سبتمبر سنة 2012، عن العلاقات المصرية الأمريكية. دونتها تحت عنوان: الحافة. ومن باب التأصيل التاريخي لكلمة الحافة دونت يومها أن أول من استخدمها في طرحه لمأزق العلاقات المصرية الأمريكية في ازدهارها أو انهيارها. تقدمها أو تراجعها. كان وزير خارجية أمريكا الأشهر هنرى كيسنجر. لا أعرف هل كان وقتها -وقت أن استخدم هذا التعبير- وزيرًا للخارجية أم مستشارًا للأمن القومى الأمريكي. وقد عدت إلى صفحاتي القديمة بعد الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي انتهت نهاية مثيرة، مثل نهاية فيلم من أفلام دراما الدم والدموع المصرية القديمة. بفوز دونالد ترامب، وهزيمة هيلاري كلينتون.

ولأن صاحب تعبير الحافة هو هنري كيسنجر، بدأت ذكرياتي به. فقد جاء هنري كيسنجر إلى مصر والتقى بالرئيس أنور السادات بعد حرب السادس من أكتوبر 1973. حيث جرى أول اتصال تليفوني بين القاهرة، وواشنطن منذ عدوان الخامس من يونيو 1967. وكانت العلاقات الدبلوماسية قد قُطعت بقرار من عبد الناصر بعد أن ثبت لمصر الدور الأمريكي الضخم في عدوان إسرائيل على مصر 1967.

ظلت العلاقات المصرية الأمريكية مقطوعة حتى بعد رحيل عبدالناصر، واستمرت القطيعة الظاهرية والمعلنة حتى ما بعد حرب السادس من أكتوبر 1973، وحكاياتها عندي كثيرة لا أريد أن تأخذني مما أنا بصدد حكايته عن كيسنجر مع مصر. أعود للقصة الأصلية، وأقول أن كيسنجر جاء إلى مصر والتقى السادات في النادي الدبلوماسي بالقرب من ميدان التحرير. وكان ذلك في 1974. أي قبل 42 عامًا مضت. ربما كانت فترة طويلة في عمر الإنسان. لكنها ومضة قصيرة في أعمار الأوطان.

قال كيسنجر في طريق عودته أن المصريين لا بد وأن يعيشوا على الحافة. لا يشبعوا لدرجة أن يغزو من حولهم ويفيضوا عبر حدودهم. ولا يجوعوا لحد الثورة التي تأتي بالشيوعية إلى المنطقة. وكان يتكلم عن المصريين باعتبارهم مرشحين في ذلك الوقت -1974- لأن يكونوا حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط. بعد أن مروا بالتحول الكبير من التحالف مع الاتحاد السوفييتي الذي كان إلى الارتباط بأمريكا.

ثم وجدت العلاقات المصرية الأمريكة نفسها على الحافة سنة 2012، بعد الفيلم المسيء للرسول -صلى الله عليم وسلم- ولكافة المسلمين. رغم أن عنوانه: براءة المسلمين. وقصة الفيلم قد تُصبح بعد ذلك أهم من الفيلم نفسه. وربما كانت مرشحة لأن تصدر عنها كتب تروى حكاية الفيلم الذي لا يستحق التوقف أمامه ولا الكتابة عنه ولا اعتباره شيئاً له قيمة لولا أنه يتعرض لمقدساتنا بطريقة سخيفة ومنحطة حدثت من قبل ومن المتوقع أن تحدث مستقبلاً.

لاحظت على الأداء الأمريكي البطء الشديد في التعامل مع الأمر. وأن كل ما قيل من قِبَل مسؤولين أمريكيين لم يحتوِ على كلمة الاعتذار أو الشعور بالأسف. طبعًا نحن لا نعرف ماذا جرى في الاتصال التليفوني الذي تم بين الرئيسين أوباما والرئيس الإخواني الذي اغتصب حكم مصر سنة من عمرها: مرسي. ودائمًا تكون هناك تسريبات من الطرفين عما قيل. لكن نصوص المكالمات تُنشر بعد سنوات من حدوثها.

أوباما قال في تصريحات صحفية لم يصلنا النص الرسمي لها منشورًا من قِبَل البيت الأبيض ولا سفارة أمريكا في القاهرة. لكنها تسريبات صحفية. قال أوباما أن مصر ليست عدوًا ولا تُعد حليفاً للولايات المتحدة الأمريكية. «ليته نَقَّطَنا بسكاته» كما يقول المثل الشعبي المصري. ثم أضاف: إن مصر لو لم توفر الحماية الكاملة للسفارة الأمريكية ستكون هناك مشكلة حقيقية بين البلدين.

والسيدة هيلاري كلينتون. لا فض فوها ومات حاسدوها. قالت: إن الفيلم يستحق العقاب. لكنها لم تعتذر للمسلمين عن الإساءة التي لحقت بهم. وجاء كلامها في العموميات. لاحظت على الإدارة الأمريكية التي توجد بها أقوى مخابرات في العالم -هكذا يصدرون لنا الأمر- أن الكلام الأمريكي يخلو من المعلومات عن الفيلم. وعندما تصمت أمريكا وتترك الأمر لاجتهادات الإعلام فحدَّث ولا حرج.

مرة قيل أن منتج الفيلم إسرائيلي يحمل الجنسية الأمريكية. وأنه جمع خمسة ملايين دولار من متبرعين يهود. وفي مرة أخرى يدَّعون أن المنتج مصري تستر وراء الإسرائيليين. وأنه من أقباط المهجر. وفى كل مرة يذكرون لنا اسمًا غير الاسم الذي يذكر في المرة التالية.

ثم دخلت إسرائيل على الخط. ووصل الأمر بصحيفة إسرائيلية «إسرائيل اليوم» لأن تكتب أن المطلوب عودة المسلمين إلى زمن الأوثان وأن التوحيد الإسلامي والإيمان بالله الواحد هو السبب في كل هذه المشاكل. وكأنهم من حقهم أن يختاروا لنا شكل الإيمان الذي نتعامل معه والدين الذي نؤمن به.

سمعت من بعض المتعاطفين مع أمريكا في صحافتنا. الذين أسميهم مارينز الصحافة المصرية. من يقول: إن أوباما لم يعتذر أو يتأسف. وأن هيلاري كلينتون لم تعتذر، ولم تتأسف خوفًا من أن ميت رومني المرشح المنافس لأوباما قد يعتبر الاعتذار أو الأسف فيه اختراق لقيم المجتمع الأمريكي الذي يحترم حرية الرأي. مهما كانت المتاعب الناتجة عنها. وقد نسيت أن أقول إن هذه الحكايات جرت وقت ترشح أوباما في معركته الانتخابية لرئاسة أمريكا.

ميت رومني لم ينس أن يعاير أوباما قائلاً: إن دول الربيع العربي التي ساعدتها أمريكا كثيرًا هي التي شهدت مظاهرات ومتاعب موجهة ضد أمريكا. وأن المتطرفين الليبيين الذين وقفت أمريكا بجوارهم ضد القذافي هم الذين قتلوا السفير الأمريكي ومساعديه. وأن السياسة الخارجية الأمريكية في أمس الحاجة لإعادة نظر «من أول وجديد» وهي السبب في كثير من المتاعب التي يواجهها رعايا الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من مكان في العالم.

ربما لم يُعْلَن أن السفارة الأمريكية قامت بإخلاء للسفيرة الأمريكية بالقاهرة وكذلك أعضاء السفارة من الدبلوماسيين الأمريكيين عند بداية الأحداث. ولم يعودوا إلى السفارة. وربما إلى مصر إلا بعد أن هدأت الأمور. وأن عملية الإخلاء والعودة تمت بعيدًا عن الأعين. وهذا الهلع الذي أصاب أمريكا قد تم بعد قتل السفير الأمريكي وأربعة من مساعديه في القنصلية الأمريكية في بني غازي. وهي المسألة التي سببت مشكلة حقيقية لأوباما الذي يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية.

الحافة المصرية الأمريكية أكبر من أزمة. لكني أعتقد أنها أقل من قطيعة.

من يتصور أن التاريخ مضى وانقضى وغير مرشح لإعادة الإنتاج واهم. وأن ما جرى بالأمس القريب أو البعيد له ظلال، ربما استمرت فيما بعد. وهو ما يمكن أن يسميه المؤرخون: مكر التاريخ.